تروي بعض الأساطير أن الشمس والرياح تراهنتا على أي من هما أقوى و اشد تأثيرا و بأسا فزعمت كل من هما أنها تملك من هذه الصفات ما لا تملكها الأخرى، و أخيرا قالت الرياح للشمس أترين هذا العجوز المدثر بمعطفه ؟ أتحداك أن تقنعيه بخلع معطفه بأسرع مما أستطيع فقبلت الشمس بالتحدي و أهابت بالرياح أن تثبت قولها، و أسرعت الشمس و اختبأت وراء غمامة ثقيلة، بينما استجمعت الرياح كُل قوتها وهبت بعنف على ذلك الشخص فتشبث بمعطفه أكثر من قبل وجمع أطرافه بكلتا يديه وكان كُلما أزداد هبوب الرياح كُلما أزداد تمسكه بذلك الرداء.
استمر الوضع على تلك الحال حتى أعلنت الرياح استسلامها فالأمر يسير عكس ما خططت له، وهُنا ابتسمت الشمس وبدأت في تنفيذ التحدي على طريقتها فبزغت من وراء الغمامة وأخذت تنشر أشعتها حول ذلك الشخص في دعة و رفق وتغمره بدفئها رويداً رويداً حتى بدأ يشعر بالدفء والحرارة مما أجبره على خلع ذلك المعطف الذي كان قبل قليل متشبثاً به حتى كاد يلتصق به فرماه بعيداً عنه وأستمتع بأشعة الشمس الدافئة
وبذلك فازت الشمس بالتحدي وأيقنت الرياح العاتية أن في الدفء قوة مؤثرة قد تتفوق على سطوتها العاتية.
إن الإرغام و الإكراه يولدان المقاومة ويورثان الخلاف بينما الإقناع والحوار يبقيان على الود والوئام ويقودان للتغيير بسلاسة ويسر ورضا. إن الإقناع كما هو التفاوض لغة الحكماء وطريقة الأذكياء؛ وما ألتزمه إنسان إلا كان الاحترام والتقدير نصيبه من قبل الأطراف الأخرى بغض النظر عن قبوله.
يعرف الإقناع من ناحية اصطلاحية على انه " المجهود المنظم و المدروس الذي يستخدم وسائل مختلفة للتأثير على آراء الآخرين وأفكارهم بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون على وجهة النظر في موضوعٍ معين، وذلك من خلال المعرفة النفسية والاجتماعية لذلك الجمهور المستهدف "، كما يعرف على أنه: " عمليات فكرية وشكلية يحاول فيها أحد الطرفين التأثير على الآخر وإخضاعه لفكرة ما "، ويعرّف أيضاً باستخدام الإنسان للألفاظ والكلمات والإرشادات وكل ما يحمل معنى عاماً لبناء الاتجاهات والتصرفات أو تغييرها ".
الإقناع "فن" بكل ما تحمله هذه الكلمة من مدلولات، وبالرغم من محاولة الكثيرين ممارسة هذا الفن، إلا أن القلة القليلة فقط تلك التي أجادته.
يعتبر الإقناع أحد المفاهيم التي أصبحت تأخذ دورا كبيرا في التحليلات والكتابات في الوقت الراهن، ولا شك أن الإقناع يلعب دوراً رئيسياً وحيوياً في حياة أي فرد، فالوالد في بيته يريد أن يقنع الأسرة بوجهة نظره، والمسئول في موقعه أياً كان يريد أن يقنع المرؤوسين، والتاجر يحاول إقناع الزبائن، والتربوي يسعى لإقناع طلابه والإعلامي يريد إقناع المُتلقي والسياسي يريد إقناع الجمهور بجدوى سياسته وأهمية برامجه، ورجل العلاقات العامة يسعى لتسويق المنتجات والخدمات لدى الجمهور المستهدف، والأحزاب تحاول إقناع الجمهور بجدية برامجها الانتخابية و الأنظمة و الدول تحاول إقناع المواطنين بمدى نجاعة سياساتها الاجتماعية و الاقتصادية، ولذا فإن للإقناع دوراً محورياً في الحياة ذلك إن الحياة ميدان للاتصال، والاتصال عملية إنسانية وحياتية ذات جانب اجتماعي، ونفسي لا تستقيم الحياة الاجتماعية وتكتمل إلاّ بها، ويأتي الإقناع ليضطلع بالدور الرئيس والمهم في الاتصال.
قد قامت الباحثة الاجتماعية كاتلين ريدون بدراسة حول الإقناع وأهميته، فأشارت إلى حقيقة اجتماعية، وهي أن الناس يعتمدون على بعضهم، ويتصرفون بالكيفية التي تسهل التوافق بينهم، فكل منهم عليه أن يجد الأساليب التي تجعل سلوكه المحقق لأهدافه مقبولاً من الآخرين، فهم في حـاجة إلى أن يكونوا في صحبة الآخرين، وأن يكونوا مقبولين منهم وهذه الحاجة التي يشعرون بها لا يمكن تحقيقها إذا جاء سلوكهم متعارضاً مع أهداف الآخرين، ويأتي الإقناع كأسلوب يحاول به الناس أن يغيروا سلوك الآخرين.
يأخذ الإقناع شكلين واضحين فهو إما يكون إقناعاً مباشراً أو إقناعاً غير مباشر، والإقناع المباشر يخاطب الفرد أو الجمهور بشكل تلقائي بدون مواربة أو مُداراة مما يستشير في العادة دفاعات المتلقي و يجعله يُبدي تصلّباً ومقاومةً نفسية متزايدة ينتج عنها في الغالب عدم قبول وجهة النظر المطروحة، و يتطلب هذا الشكل من الإقناع مهارات غير عادية ممن يريدون إجادته و استعماله في كسب تعاطف الآخرين و تعاونهم. أما الإقناع غير المباشر فيكون بالعادة متوارياً ولكنه ذكي يدفع المُتلقي إلى استنتاج الأمور بنفسه ومن ثم يعمد إلى اتخاذ القرارات بصدد الموضوع المطروح من تلقاء نفسه مما يُشعره بالرضا والراحة النفسية ، ويُعتبر الإقناع ناجحاً إذا صدرت القرارات من الجهة المستهدفة بحيث تكون موازيةً لما نطرحه من مواضيع بمعنى أن تلك القرارات تسير مع وجهات نظرنا المراد تبنّيها .
يقول الكاتب الأمريكي هاري اوفر ستريت في كتابه " التأثير في التصرف الإنساني " كل نشاط إنساني مصدره رغبة متأصلة في النفس، و من ثم فأفضل نصيحة للذين يشتغلون بإقناع الناس، سواء في العمل، أو في المدرسة أو في البيت: اخلق أولا في الشخص الآخر رغبة جامحة في أن يفعل ما تريد، فان الذي يفعل هذا تنحاز الدنيا جميعا إلى صفه أما الذي لا يفعله، فيسير طريقا طويلا بمفرده.
و لعل من أهم قواعد فن إقناع الآخرين أن تكون مقتنعا جدا من الفكرة التي تسعى لنشرها و أن تمتلك الحجة و البلاغة لتبسيطها للآخرين وان تستخدم الكلمات ذات المعاني المحصورة والمحددة أن تختار العبارة اللينة الهينة، السهل فهمها والابتعاد عن الشدة و الإرهاب والضغوط وفرض الرأي و أن تحرص على ربط بداية حديثك بنهاية حديث المتلقي لأن هذا سيشعره بأهمية كلامه لديك وأنك تحترمه وتهتم بكلامه و لا تحاول أن تبرهن على صحة موقفك بالكامل وان الطرف الآخر مخطئ تماما في كل ما يقول.
يقول الكاتب ديل كارنيجي في كتابه الشهير " كيف تختار الأصدقاء و تؤثر في الناس": لا تبدأ حديثا قط بقولك لمحدثك \\ سأثبت لك هذا أو ذاك \\ فان هذا القول يعدل قولك إني أذكى منك و اقدر منك و سألقي عليك درسا لألغي ما يدور في ذهنك و هذا تحد و يثير العناد و يحفز على النضال حتى قبل أن تبدأ حديثك. فإذا كنت ستثبت شيئا فلا تعلن ذلك سلفا بل أثبته في كياسة و لياقة حتى لا يكاد يشعر احد بأنك فعلت.
و يتمتع الشخص المجيد لفن الإقناع بأفضل ما تتسم به الأنماط المختلفة للشخصية فهو يتسم بالود و يسعى لإرضاء الجميع لكنه لا يخشى مواجهة المشكلات مباشرة، و هو يمتاز بتحطيم الحواجز بين الأنماط المختلفة للشخصية و يركز على القضايا و الموضوعات ذات الاهتمام المتبادل و الأهم من ذالك هو تركيزه على فهم شخصية الآخر حتى يتمكن من تعديل سلوكه ليتوافق مع متطلبات الشخص الآخر.
و تعد الدقائق الأولى هي المحددة الأساسية لمدى نجاح عملية الإقناع المباشر أو فشله، لذا يجب تجنب المواجهات في البداية و إذا لم توافق على مواقف الطرف الآخر فلا داعي للجدل، بل اعرض وجهة نضرك بهدوء فلهذا الأسلوب الودي والمتفهم قدرة علانية على نزع فتيل المواجهة و هو يسمح لك بالرفض أو القبول في نفس الوقت.
و من بين المهارات المهمة التي تساعد في عملية إقناع الآخرين هي فك شفرة لغة الجسد التي تعتبر أكثر صدقا و أفضل إنباء و أكثر إيحاء من الكلمات المنطوقة، فهي البوابة التي تقودنا نحو كشف ما يخفيه الآخرون، فإذا غفا محاورك أثناء النقاش فهو يقول لك بأنه غير مقتنع بما تقول رغم بلاغتك و قوة حجتك، كما أن ثني الذراعين قد يعني قد يعني استعداد محاورك للنقاش. أما رفع الحاجب أو التحديق للأعلى فلا يعني الرفض القاطع أو القبول القاطع ، بل يعني انه عليك التأني و عدم التسرع في الحكم على نظيرك في المفاوضات. و ما يثبت دقة و صدق لغة الجسد هو تحليلك لإجابات الطرف الآخر عن أسئلتك، و هنا يلعب طرح الأسئلة الذكية و اللبقة دورا هاما في تقصي الحقائق و الكشف عنها، و إماطة اللثام عما يخفيه المتكلم عن مشاعر و ما يبطنه من نوايا، مما يتيح للسائل فرصة التصرف و التدبير لتسهيل عملية الإقناع.
يقول الاستشاري لاسي تي سميث في كتابه الممتاز " افتح مخك – دور الذكاء الفطري في المفاوضات-": لكل شيء سببان، السبب المعلن هو مزيف، و السبب الخفي هو حقيقي، فلا تنخدع بالكلام المعسول و ميز بين الحقيقة للوهم.
و من ميزات فن الإقناع عدم الإصرار على الفوز بالضربة القاضية و السماح للطرف الأخر بالحفاظ على ماء وجهه، لأن الأشخاص الماهرين والذين لديهم موهبة النقاش هم الذين يعرفون كيف يجعلون الطرف الآخر يقر بوجهة نظرهم دون أن يشعر بالحرج أو الإهانة، ويتركون له مخرجا لطيفا من موقفه. إذا أردت أن يعترف الطرف الآخر لك بوجهة نظرك فاترك له مجالا ليهرب من خلاله من موقفه و أن تترك الجدل العقيم الذي يقود إلى الخصام.
يقول بنجامين فرانكلين:" إذا جادلت، و تحديت و ناقضت فربما استطعت أن تنتصر أحيانا و لكنه نصر أجوف، لأنك ستخسر على أي حال، حسن علاقتك بمحدثك، فماذا ستفضل: انتصارا أجوف أم علاقة طيبة بالرجل فأنت قلما تحوز على الاثنين معا "
و في القرآن الكريم مثال رائع لقوة الحجة في الإقناع، يقول تعالى عز شأنه في سورة البقرة: { ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربيَ الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنا الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر } (البقرة:258) هذه المحاجَّة التي جرت بين إبراهيم عليه السلام، وبين ذاك الملك الذي ادعى القدرة على الخلق والإيجاد، والإماتة والإعدام، و كيف تمكن أبونا نبي الله إبراهيم الخليل من إقناعه و ردعه بعد أن طلب منه دليلاً على دعواه، بأن يأتيَ بالشمس من المغرب، خلافًا لما جرت عليه السنن الكونية، فلم يستطع لذلك جوابًا، وأُسقط في يده؛ وأقام عليه إبراهيم الحجة البالغة، مبينًا له أن ما ادعاه في دعواه، ليس له فيه من الأمر شيء، بل ذلك لله وحده، لا ينازعه في ذلك أحد من خلقه مهما أوتي من قدرة وسلطة ومكانة .
أما السنة النبوية فتزخر بقدرته صلى الله عليه و سلم و تمكنه من فن التفاوض و الإقناع، وهذا موقف نرى فيه أسلوب رسولنا الكريم في الإقناع، وكيف استطاع أن يبين للشاب خطأه، بأسلوب يختلف عما كان يريد الصحابة القيام به .
عن أبي أمامة أن فتى شابا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا (مه، مه) فقال: ادن، فدنا منه قريبا.
قال: فجلس.
قال: أتحبه لأمك ؟
قال: لا والله، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.
قال: أتحبه لأختك ؟
قال: لا والله جعلني الله فداءك.
قال: والناس لا يحبونه لأخواتهم.
قال: أتحبه لعمتك؟
قال: لا والله ، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم.
قال: أتحبه لخالتك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم.
قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه".
فلم يكن من الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء. رواه أحمد
و نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يستخدم أسلوب اللوم أو العقاب، وإنما استخدم أسلوب التواصل الفعال، وطرح الأسئلة، و توضيح الأمور حتى تكون الرسالة مفهومة من الطرف الآخر ليدع المجال للأخر للتفكير في أمره.
استمر الوضع على تلك الحال حتى أعلنت الرياح استسلامها فالأمر يسير عكس ما خططت له، وهُنا ابتسمت الشمس وبدأت في تنفيذ التحدي على طريقتها فبزغت من وراء الغمامة وأخذت تنشر أشعتها حول ذلك الشخص في دعة و رفق وتغمره بدفئها رويداً رويداً حتى بدأ يشعر بالدفء والحرارة مما أجبره على خلع ذلك المعطف الذي كان قبل قليل متشبثاً به حتى كاد يلتصق به فرماه بعيداً عنه وأستمتع بأشعة الشمس الدافئة
وبذلك فازت الشمس بالتحدي وأيقنت الرياح العاتية أن في الدفء قوة مؤثرة قد تتفوق على سطوتها العاتية.
إن الإرغام و الإكراه يولدان المقاومة ويورثان الخلاف بينما الإقناع والحوار يبقيان على الود والوئام ويقودان للتغيير بسلاسة ويسر ورضا. إن الإقناع كما هو التفاوض لغة الحكماء وطريقة الأذكياء؛ وما ألتزمه إنسان إلا كان الاحترام والتقدير نصيبه من قبل الأطراف الأخرى بغض النظر عن قبوله.
يعرف الإقناع من ناحية اصطلاحية على انه " المجهود المنظم و المدروس الذي يستخدم وسائل مختلفة للتأثير على آراء الآخرين وأفكارهم بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون على وجهة النظر في موضوعٍ معين، وذلك من خلال المعرفة النفسية والاجتماعية لذلك الجمهور المستهدف "، كما يعرف على أنه: " عمليات فكرية وشكلية يحاول فيها أحد الطرفين التأثير على الآخر وإخضاعه لفكرة ما "، ويعرّف أيضاً باستخدام الإنسان للألفاظ والكلمات والإرشادات وكل ما يحمل معنى عاماً لبناء الاتجاهات والتصرفات أو تغييرها ".
الإقناع "فن" بكل ما تحمله هذه الكلمة من مدلولات، وبالرغم من محاولة الكثيرين ممارسة هذا الفن، إلا أن القلة القليلة فقط تلك التي أجادته.
يعتبر الإقناع أحد المفاهيم التي أصبحت تأخذ دورا كبيرا في التحليلات والكتابات في الوقت الراهن، ولا شك أن الإقناع يلعب دوراً رئيسياً وحيوياً في حياة أي فرد، فالوالد في بيته يريد أن يقنع الأسرة بوجهة نظره، والمسئول في موقعه أياً كان يريد أن يقنع المرؤوسين، والتاجر يحاول إقناع الزبائن، والتربوي يسعى لإقناع طلابه والإعلامي يريد إقناع المُتلقي والسياسي يريد إقناع الجمهور بجدوى سياسته وأهمية برامجه، ورجل العلاقات العامة يسعى لتسويق المنتجات والخدمات لدى الجمهور المستهدف، والأحزاب تحاول إقناع الجمهور بجدية برامجها الانتخابية و الأنظمة و الدول تحاول إقناع المواطنين بمدى نجاعة سياساتها الاجتماعية و الاقتصادية، ولذا فإن للإقناع دوراً محورياً في الحياة ذلك إن الحياة ميدان للاتصال، والاتصال عملية إنسانية وحياتية ذات جانب اجتماعي، ونفسي لا تستقيم الحياة الاجتماعية وتكتمل إلاّ بها، ويأتي الإقناع ليضطلع بالدور الرئيس والمهم في الاتصال.
قد قامت الباحثة الاجتماعية كاتلين ريدون بدراسة حول الإقناع وأهميته، فأشارت إلى حقيقة اجتماعية، وهي أن الناس يعتمدون على بعضهم، ويتصرفون بالكيفية التي تسهل التوافق بينهم، فكل منهم عليه أن يجد الأساليب التي تجعل سلوكه المحقق لأهدافه مقبولاً من الآخرين، فهم في حـاجة إلى أن يكونوا في صحبة الآخرين، وأن يكونوا مقبولين منهم وهذه الحاجة التي يشعرون بها لا يمكن تحقيقها إذا جاء سلوكهم متعارضاً مع أهداف الآخرين، ويأتي الإقناع كأسلوب يحاول به الناس أن يغيروا سلوك الآخرين.
يأخذ الإقناع شكلين واضحين فهو إما يكون إقناعاً مباشراً أو إقناعاً غير مباشر، والإقناع المباشر يخاطب الفرد أو الجمهور بشكل تلقائي بدون مواربة أو مُداراة مما يستشير في العادة دفاعات المتلقي و يجعله يُبدي تصلّباً ومقاومةً نفسية متزايدة ينتج عنها في الغالب عدم قبول وجهة النظر المطروحة، و يتطلب هذا الشكل من الإقناع مهارات غير عادية ممن يريدون إجادته و استعماله في كسب تعاطف الآخرين و تعاونهم. أما الإقناع غير المباشر فيكون بالعادة متوارياً ولكنه ذكي يدفع المُتلقي إلى استنتاج الأمور بنفسه ومن ثم يعمد إلى اتخاذ القرارات بصدد الموضوع المطروح من تلقاء نفسه مما يُشعره بالرضا والراحة النفسية ، ويُعتبر الإقناع ناجحاً إذا صدرت القرارات من الجهة المستهدفة بحيث تكون موازيةً لما نطرحه من مواضيع بمعنى أن تلك القرارات تسير مع وجهات نظرنا المراد تبنّيها .
يقول الكاتب الأمريكي هاري اوفر ستريت في كتابه " التأثير في التصرف الإنساني " كل نشاط إنساني مصدره رغبة متأصلة في النفس، و من ثم فأفضل نصيحة للذين يشتغلون بإقناع الناس، سواء في العمل، أو في المدرسة أو في البيت: اخلق أولا في الشخص الآخر رغبة جامحة في أن يفعل ما تريد، فان الذي يفعل هذا تنحاز الدنيا جميعا إلى صفه أما الذي لا يفعله، فيسير طريقا طويلا بمفرده.
و لعل من أهم قواعد فن إقناع الآخرين أن تكون مقتنعا جدا من الفكرة التي تسعى لنشرها و أن تمتلك الحجة و البلاغة لتبسيطها للآخرين وان تستخدم الكلمات ذات المعاني المحصورة والمحددة أن تختار العبارة اللينة الهينة، السهل فهمها والابتعاد عن الشدة و الإرهاب والضغوط وفرض الرأي و أن تحرص على ربط بداية حديثك بنهاية حديث المتلقي لأن هذا سيشعره بأهمية كلامه لديك وأنك تحترمه وتهتم بكلامه و لا تحاول أن تبرهن على صحة موقفك بالكامل وان الطرف الآخر مخطئ تماما في كل ما يقول.
يقول الكاتب ديل كارنيجي في كتابه الشهير " كيف تختار الأصدقاء و تؤثر في الناس": لا تبدأ حديثا قط بقولك لمحدثك \\ سأثبت لك هذا أو ذاك \\ فان هذا القول يعدل قولك إني أذكى منك و اقدر منك و سألقي عليك درسا لألغي ما يدور في ذهنك و هذا تحد و يثير العناد و يحفز على النضال حتى قبل أن تبدأ حديثك. فإذا كنت ستثبت شيئا فلا تعلن ذلك سلفا بل أثبته في كياسة و لياقة حتى لا يكاد يشعر احد بأنك فعلت.
و يتمتع الشخص المجيد لفن الإقناع بأفضل ما تتسم به الأنماط المختلفة للشخصية فهو يتسم بالود و يسعى لإرضاء الجميع لكنه لا يخشى مواجهة المشكلات مباشرة، و هو يمتاز بتحطيم الحواجز بين الأنماط المختلفة للشخصية و يركز على القضايا و الموضوعات ذات الاهتمام المتبادل و الأهم من ذالك هو تركيزه على فهم شخصية الآخر حتى يتمكن من تعديل سلوكه ليتوافق مع متطلبات الشخص الآخر.
و تعد الدقائق الأولى هي المحددة الأساسية لمدى نجاح عملية الإقناع المباشر أو فشله، لذا يجب تجنب المواجهات في البداية و إذا لم توافق على مواقف الطرف الآخر فلا داعي للجدل، بل اعرض وجهة نضرك بهدوء فلهذا الأسلوب الودي والمتفهم قدرة علانية على نزع فتيل المواجهة و هو يسمح لك بالرفض أو القبول في نفس الوقت.
و من بين المهارات المهمة التي تساعد في عملية إقناع الآخرين هي فك شفرة لغة الجسد التي تعتبر أكثر صدقا و أفضل إنباء و أكثر إيحاء من الكلمات المنطوقة، فهي البوابة التي تقودنا نحو كشف ما يخفيه الآخرون، فإذا غفا محاورك أثناء النقاش فهو يقول لك بأنه غير مقتنع بما تقول رغم بلاغتك و قوة حجتك، كما أن ثني الذراعين قد يعني قد يعني استعداد محاورك للنقاش. أما رفع الحاجب أو التحديق للأعلى فلا يعني الرفض القاطع أو القبول القاطع ، بل يعني انه عليك التأني و عدم التسرع في الحكم على نظيرك في المفاوضات. و ما يثبت دقة و صدق لغة الجسد هو تحليلك لإجابات الطرف الآخر عن أسئلتك، و هنا يلعب طرح الأسئلة الذكية و اللبقة دورا هاما في تقصي الحقائق و الكشف عنها، و إماطة اللثام عما يخفيه المتكلم عن مشاعر و ما يبطنه من نوايا، مما يتيح للسائل فرصة التصرف و التدبير لتسهيل عملية الإقناع.
يقول الاستشاري لاسي تي سميث في كتابه الممتاز " افتح مخك – دور الذكاء الفطري في المفاوضات-": لكل شيء سببان، السبب المعلن هو مزيف، و السبب الخفي هو حقيقي، فلا تنخدع بالكلام المعسول و ميز بين الحقيقة للوهم.
و من ميزات فن الإقناع عدم الإصرار على الفوز بالضربة القاضية و السماح للطرف الأخر بالحفاظ على ماء وجهه، لأن الأشخاص الماهرين والذين لديهم موهبة النقاش هم الذين يعرفون كيف يجعلون الطرف الآخر يقر بوجهة نظرهم دون أن يشعر بالحرج أو الإهانة، ويتركون له مخرجا لطيفا من موقفه. إذا أردت أن يعترف الطرف الآخر لك بوجهة نظرك فاترك له مجالا ليهرب من خلاله من موقفه و أن تترك الجدل العقيم الذي يقود إلى الخصام.
يقول بنجامين فرانكلين:" إذا جادلت، و تحديت و ناقضت فربما استطعت أن تنتصر أحيانا و لكنه نصر أجوف، لأنك ستخسر على أي حال، حسن علاقتك بمحدثك، فماذا ستفضل: انتصارا أجوف أم علاقة طيبة بالرجل فأنت قلما تحوز على الاثنين معا "
و في القرآن الكريم مثال رائع لقوة الحجة في الإقناع، يقول تعالى عز شأنه في سورة البقرة: { ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربيَ الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنا الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر } (البقرة:258) هذه المحاجَّة التي جرت بين إبراهيم عليه السلام، وبين ذاك الملك الذي ادعى القدرة على الخلق والإيجاد، والإماتة والإعدام، و كيف تمكن أبونا نبي الله إبراهيم الخليل من إقناعه و ردعه بعد أن طلب منه دليلاً على دعواه، بأن يأتيَ بالشمس من المغرب، خلافًا لما جرت عليه السنن الكونية، فلم يستطع لذلك جوابًا، وأُسقط في يده؛ وأقام عليه إبراهيم الحجة البالغة، مبينًا له أن ما ادعاه في دعواه، ليس له فيه من الأمر شيء، بل ذلك لله وحده، لا ينازعه في ذلك أحد من خلقه مهما أوتي من قدرة وسلطة ومكانة .
أما السنة النبوية فتزخر بقدرته صلى الله عليه و سلم و تمكنه من فن التفاوض و الإقناع، وهذا موقف نرى فيه أسلوب رسولنا الكريم في الإقناع، وكيف استطاع أن يبين للشاب خطأه، بأسلوب يختلف عما كان يريد الصحابة القيام به .
عن أبي أمامة أن فتى شابا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا (مه، مه) فقال: ادن، فدنا منه قريبا.
قال: فجلس.
قال: أتحبه لأمك ؟
قال: لا والله، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.
قال: أتحبه لأختك ؟
قال: لا والله جعلني الله فداءك.
قال: والناس لا يحبونه لأخواتهم.
قال: أتحبه لعمتك؟
قال: لا والله ، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم.
قال: أتحبه لخالتك؟
قال: لا والله، جعلني الله فداءك.
قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم.
قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه".
فلم يكن من الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء. رواه أحمد
و نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يستخدم أسلوب اللوم أو العقاب، وإنما استخدم أسلوب التواصل الفعال، وطرح الأسئلة، و توضيح الأمور حتى تكون الرسالة مفهومة من الطرف الآخر ليدع المجال للأخر للتفكير في أمره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق