تاريخ فلسطين من 1936-1939م
أولا: الأحداث القمعية والسياسية 1929ـ1936
لم تسفر الجهود التي بذلتها القيادات السياسية العربية في فلسطين بوسائل النضال السلمي عن إحراز تقدم على صعيد المطالب الوطنية.
ولم تكن السلبية إزاء المشاركة في حكم فلسطين أو إيثار العمل السياسي السلمي يعنيان توقف النضال وأسلوب الجهاد لمقاومة الغزو الصهيوني الإمبريالي. وخلال الفترة من 1923إلى 1928 ، التي غلب عليها الطابع السياسي السلمي شهدت الساحة الفلسطينية بعض المواجهات الدامية بين العرب واليهود ، فكانت فترة أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة. في سنة 1924 وقعت " اضطرابات يافا ". ثم في العام التالي وقعت اضطرابات أخرى أثناء زيارة بالفور لافتتاح الجامعة العبرية . ولم يلبث القلق السياسي والتدهور الاقتصادي أن اشتد بالمجتمع العربي الفلسطيني عند نهاية سنة 1928 مما أنذر بقرب وقوع اضطرابات شديدة .
• حادثة البراق أغسطس 1929
في منتصف أغسطس 1929 وقعت اضطرابات عنيفة بين العرب واليهود فيما عرف باسم ثورة البراق. ولم تتوان سلطات الانتداب عن استخدام القوة والإجراءات القمعية كتجريد حملات الاعتقال وإجراء محاكمات عسكرية وتدمير قرى عربية وأجزاء من بعض المدن لإخماد الثورة (1). وفي مذكرة احتجاج رفعتها اللجنة التنفيذية العربية للحكومة البريطانية ضد الإجراءات التي اتخذتها سلطات الانتداب أثناء أحداث الثورة قالت اللجنة " .. أن المندوب السامي طبق ما يسمى بقانون العقوبات المشتركة على معظم مدن وقرى فلسطين .. هذا القانون الذي من شأنه أن يأخذ أهالي قرية برمتها بجريمة يرتكبها شخص واحد ليس له مثيل في العالم .. وليس ذلك فقط إنما شرعت السلطات في تطبيقه بأثر رجعي مما يشكل مخالفة قانونية خطيرة ، حيث أنه من القوانين الجزائية التي لا يجوز تطبيقها بأثر رجعي .."
برزت عقب حوادث 1929 فكرة تنظيم جماعات مسلحة لمحاربة الإنجليز واليهود . وفي أكتوبر من العام نفسه تمكن " أحمد طافش " من تنظيم جماعة مسلحة أطلق عليها " الكف الأخضر " تعمل في منطقة تقع بين صفد ـ عكا ، وشنت في الشهر نفسه هجوما على الحي اليهودي في صفد بالتعاون مع أنصارها داخل المدينة . ثم تعززت الجماعة بأعداد أخرى وتوالت العمليات المسلحة في عدة مناطق . وبرهنت الجماعة على قدرتها في الحركة والمناورة لاسيما وأنها عملت في مناطق ريفية حيث الدعم من جانب القرويين . بيد أن الافتقار إلى التنسيق والتعاون بين قيادة الجماعة والقيادة السياسية الفلسطينية جعل إمكانيات اتساع المقاومة المسلحة أمرا متعذرا . وتمكنت السلطات نهاية الأمر من اعتقال عدد كبير من كوادر الجماعة القيادية .
• لجنة شو 1930
بعد أن هدأت حدة الاضطرابات عادت بريطانيا إلى أسلوب السياسة المرنة. فعينت لجنة رباعية رأسها ولتر شو أحد القضاة الإنجليز وعهدت إليها بالبحث في أسباب الاضطرابات ووضع التوصيات الكفيلة بعدم تكرارها. باشرت اللجنة مهمتها أواخر أكتوبر 1929، وطافت أرجاء فلسطين ، واستمتعت إلى زعماء عرب ويهود وبعض موظفي الحكومة ، ثم وضعت تقريرا مسهبا أشار إلى الأسباب وتضمن توصيات ظفرت بالنصيب الأوفى منه. وجاء بالتوصيات :
• إصدار بيان صريح عن السياسة التي تنوي الحكومة البريطانية اتباعها في فلسطين ، تفسر فيه بجلاء المعنى المقصود بأحكام صك الانتداب الخاصة بصيانة حقوق الطوائف غير اليهودية في فلسطين .
• التأكيد على عدم منح الوكالة اليهودية أية صلاحيات تجعلها تشارك في حكم فلسطين مشاركة فعلية .
• تنظيم مسألة الهجرة اليهودية وتحديد كثافتها والاستعانة برأي هيئات غير يهودية في هذه المسألة .
• ضبط انتقال الأراضي إلى اليهود لأنها تؤدي إلى نقمة شديدة ، واتخاذ وسائل لحماية المزارعين العرب تحول دون جلائهم عن أراضيهم .
• إقامة حكم ذاتي تساعد في تهدئة موجة الاستياء التي تعم العرب .
• تشكيل لجنة دولية من قبل مجلس عصبة الأمم لتحديد حقوق العرب واليهود في حائط المبكى .
• لجنة سمبسون 1930
عقب إذاعة تقرير شو نهاية مارس 1930 أوفدت اللجنة التنفيذية العربية وفدا إلى لندن لعرض مطالب العرب . قدم إلى رمزي ماكدونالد رئيس الوزراء مذكرة تضمنت ثلاث مطالب رئيسية هي :
• وقف الهجرة
• وضع تشريع يمنع انتقال ملكية الأراضي التي في أيدي العرب لليهود
• تشكيل حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي يشترك فيه أهل البلاد بنسبتهم العددية .
رفضت بريطانيا هذه المطالب بحجة أنها تتعارض مع صك الانتداب ، وأعلنت أنها بصدد إرسال لجنة أخرى برئاسة سمبسون للتحقيق في مسألتي الهجرة والأراضي ووضع تقرير عنهما .
وضعت لجنة سمبسون تقريرها في أغسطس 1930 أظهرت فيه عدم استطاعة فلسطين تحمل مهاجرين جدد. وأشار التقرير إلى عمليات الهجرة غير القانونية وخطورتها على أمن واقتصاديات البلاد وإلى ما يعانيه الإنسان العربي من صعوبات بسبب الهجرة مثل انخفاض الدخل وارتفاع نسبة البطالة. وطالب التقرير بوقف الهجرة عندما تلحق ضررا بمصالح العرب تطبيقا لصك الانتداب. وأشار إلى استحالة قيام الحكومة بالتوفيق بين المصالح المتناقضة بشدة بين العرب واليهود .
• الكتاب الأبيض لسنة 1930
أصدرت الحكومة البريطانية بيانا عن خطتها السياسية تجاه فلسطين على ضوء تقريري لجنتي شو وسمبسون . وعرف البيان بين مجموعة الأوراق البريطانية الخاصة بالقضية الفلسطينية باسم " الكتاب الأبيض لسنة 1930 " . أستهل بالإشارة إلى أمور تقليدية ، مثل: تحسين العلاقات بين العرب واليهود ، ترقية مصالح الشعبين ، ثم اشتمل على نقاط هي:
• التزام بريطانيا بإدارة فلسطين وفقا لأحكام صك الانتداب .
• اعتبار الكتاب الأبيض لسنة 1922 الأساس الذي تبنى عليه السياسة البريطانية .
• البدء في تشكيل مجلس تشريعي يتفق وأسس الكتاب الأبيض لسنة 1922 حتى ولو وقف العرب موقفا سلبيا .
• إنكار تدخل الوكالة اليهودية في إدارة شئون البلاد والاشتراك في حكمها ، والاستعانة بها أمر اختياري وليس إلزامي .
• الاعتراف بعدم وجود أراض جديدة يمكن توطين اليهود بها بما في ذلك الأراضي الأميرية ، باستثناء ما تملكه الوكالة اليهودية على سبيل الاحتياط
• مواجهة أي تهديد للأمن العام أو خروج عن القانون والنظام بكل قوة بما في ذلك توقيع أقسى عقوبات على مثيري الشغب
والكتاب بشكل عام عبارة عن تقرير موسع شمل كل ما يتعلق بالمشكلات التي تعاني منها فلسطين وما يشوب العلاقات بين العرب واليهود من سلبيات ، ووجهة نظر بريطانيا في كل ذلك ، وتقييم لأداء حكومة الانتداب وما وجهها من صعاب واعتراها من سلبيات. وهو وإن لم يضع قيودا صارخة على سياسة بناء الوطن القومي إلا أنه اعترف بكثير من المشكلات التي اعترت حياة العرب بسبب هذا المشروع الاستيطاني وبفشل حكومة الانتداب في أداء دورها على الوجه الأكمل ووجه انتقادات واضحة للإدارة الصهيونية في سلوكياتها التي تتنافى مع إقامة حياة مشتركة بين العرب واليهود تقوم على التعاون والتسامح.
لاشك أن الأسس التي قام عليها الكتاب الأبيض 1930 خلت من أية تعديلات جوهرية بشأن السياسة القائمة تجاه فلسطين وأكدت أن التحالف بين الاستعمار والصهيونية قائم على أشده لتهويد البلاد . وربما أهم ما ورد به لصالح العرب الإشارة إلى عدم وجود أراض جديدة في فلسطين تستوعب مهاجرين جدد ومع ذلك فهي لا تخلو من استثناء يجعل بإمكان الوكالة اليهودية الاستناد إليه لمواصلة عمليات تهجير اليهود وتوطينهم .
هاجم الصهيونيون الكتاب الأبيض لسنة 1930 ووصفوه بأنه يعصف بأحكام الانتداب . وانطلقت مظاهرات يهودية في أوربا تعلن احتجاجها عليه وأعلن وايزمان رئيس الوكالة اليهودية استقالته وعدم تعاونه مع الحكومة البريطانية . ويجدر التنويه أن الصهاينة الذين قبلوا الكتاب الأبيض لسنة 1922 عادوا ورفضوا نظيره لسنة 1930 رغم أن الثاني أتى بنفس الأسس التي قام عليها الأول . وتفسير ذلك أن الحركة الصهيونية 1922 كانت في موقف عصيب دوليا وجاء قبول الكتاب الأبيض شرطا لتمرير صك الانتداب بينما في 1930 كان الموقف قد تبدل بتفوق اليهود داخل فلسطين في كافة المجالات وسيطرتهم على شئون الحكم والإدارة
لم يكد يمر شهر على صدور الكتاب الأبيض في أكتوبر 1930حتى بدت بوادر ردة عن الجزء الخاص بتقييد الهجرة وانتقال الأراضي إذ أصدر اللورد باسفيلد وزير المستعمرات البريطانية تصريحا مقتضبا ينفي فيه أن تشريعا سوف يوضع لمنع الوكالة اليهودية والجمعيات الصهيونية من الاستمرار في تحقيق أهدافهم بالنسبة للأراضي والعمال . ثم توالت اتصالات بين مسئولين بريطانيين وآخرين في الوكالة اليهودية استهدفت استرضاء الأخيرين وطمأنتهم أن غاياتهم موضع تقدير واحترام شديدين
• الفلسطينيون واشتداد ساعد المقاومة المسلحة 1931ـ1935
لم يسفر الكتاب الأبيض لسنة 1930عن أية خطوات عملية لوقف تهويد فلسطين ، فاستمرت أبواب الهجرة بكافة صورها مفتوحة وعملية انتقال الأراضي إلى أيدي اليهود دون ضابط ولا رابط . ثم جد موقف لم يحتمل السكوت تمثل في غض الحكومة الطرف عن عملية تسليح اليهود على نطاق واسع . وقامت سلطات الانتداب ذاتها بإمداد اليهود بالأسلحة علنا ، إذ وزعت الأسلحة على المستعمرات اليهودية وعهدت إلى الضباط الإنجليز بتدريب سكان المستعمرات على استخدامها وباتت عملية تسليح اليهود من الأهداف الرئيسية الصهيونية في تلك السنوات . وفي ذات الوقت نشطت عمليات إدخال الأسلحة إلى اليهود في فلسطين من الخارج ، وغضت السلطات أنظارها عن الشحنات الهائلة من الأسلحة والذخائر التي تعاقب تهريبها في شكل بضائع مرسلة باسم شركات صهيونية مثل شركة روتنبرج أو بعض الشخصيات اليهودية ، وكانت هذه الشحنات تمر تحت أنظار رجال الجمارك وحرس الحدود
كانت فلسطين كلها في مطلع سنة 1930 تستعد لثورة عارمة مهدت لها الصحافة العربية بعدة مقالات هاجمت فيها بريطانيا وانتقدت سياستها الصهيونية في فلسطين . وذكرت جريدة إسرائيل التي كانت تصدر في القاهرة في حديثها عن دور تلك الصحافة " .. لا يخلو التحريض الذي تضطرم أواره من دور الصحف العربية في فلسطين .. وهو الدور الذي كان له أثر في تكاثر حوادث الاغتيال .. ومن شر ما ابتليت به فلسطين فئة ممن ينتسبون زورا إلى الصحافة وهم أحق بالانتساب إلى الثوريين . "
ثم في أغسطس 1931 تصدت السلطات لمظاهرة عربية احتجت على تسليح اليهود ، وقامت بقمعها بالقوة واعتقلت بعض العناصر الوطنية ، ثم عمدت إلى تطبيق " قانون منع الجرائم " على أصحاب الصحف العربية ومحرريها . وفي الشهر التالي احتجت الجمعية العربية الوطنية التي أنشئت في نابلس في أبريل من نفس العام على سياسة الحكومة ، وجاء بمذكرة الاحتجاج " .. إن اتباع هذه السياسة اعتراف من الحكومة بإفلاس سياستها ولجوئها إلى وسائل شاذة استثنائية لخنق حرية الفكر المقدسة .. " .
لم ترهب هذه الإجراءات العرب الذين راعهم إمعان آرثر واكهوب في سياسة التهويد . وأذاعت اللجنة التنفيذية العربية بيانا مارس 1933 طلبت فيه توجيه الكفاح ضد الإنجليز باعتبارهم أصل الداء . ثم دعت إلى عقد مؤتمر عام في يافا . وقرر المؤتمر عدم التعاون مع حكومة الانتداب ومقاطعة البضائع البريطانية والصهيونية . ومنذ يوليو 1933 اتخذت سلطات الانتداب عدة تدابير غلفت بإطار قانوني لمواجهة المظاهرات التي قررت اللجنة التنفيذية العربية قيادتها في مختلف مدن فلسطينية احتجاجا على سياسة التمادي في بناء الوطن القومي ، فنشرت بلاغا رسميا بمعاقبة كل من يشترك في مظاهرة لا توافق عليها الحكومة بالسجن لمدد تتراوح بين 3 أشهر وعام ، كما قررت حظر أية تجمعات أو مؤتمرات تعرض البلاد للفوضى والخطر، ثم وجهت إنذارا إلى الصحف بغلق أبوابها ومصادرة كل محرراتها ومنع مديريها وأصحابها من ممارسة المهنة إذا استمرت في التحريض على القيام بمظاهرات .جاء تصميم السلطات على منع المظاهرات بالقوة دليلا على إدراكها التام أن هذه المظاهرات موجهة ضدها في المقام الأول وضد الصهيونية في المرتبة الثانية. ثم قررت اللجنة التنفيذية العربية الدعوة إلى عقد إضراب عام أكتوبر 1933 ، مما ترتب عليه مصادمات عديدة بين متظاهرين عرب وقوات الأمن في بعض المدن الفلسطينية. ولاشك أن المصادمات الدامية كشفت النقاب عن روح عدائية قوية ضد الانتداب وأوضحت للبريطانيين أن عرب فلسطين قد عقدوا العزم على توجيه جهودهم لمقاومته ولو باستخدام القوة . تمثل رد فعل الحكومة في مزيد من التصعيد فأصدرت قانونا للطوارئ طبقته على جميع أنحاء فلسطين. كما عدلت قانون " منع الجرائم " وضمنته مادة تخول الحاكم العسكري في حالات الطوارئ إصدار قرارات اعتقال لمجرد الاشتباه في ارتكاب شخص ما فعلا معينا.
على صعيد آخر استدعت سلطات الانتداب وفدا من اللجنة التنفيذية العربية في مطلع 1934 وأبلغته موافقتها على القيام بمظاهرة تساهم في امتصاص حماس المواطنين شريطة إلا تتجاوز الغرض العام منها وهو أنها ليست سوى وسيلة للتعبير عن المشاعر وبالتالي لا تتطور إلى أداة ضغط على السلطات لإجبارها على مواجهة المجتمع اليهودي. هكذا رأت السلطات السماح بتنظيم مظاهرة سلمية للتعبير عن مشاعر السخط تجاه سياسة بناء الوطن القومي وكأنها مجرد شيء عابر لن يتمخض عنه أي ضرر في الوقت الذي يكون بمثابة تنفيسا عن المشاعر الغاضبة المكبوتة مما يؤدي إلى قطع فتيل التوتر ويهدئ الموقف المشتعل . وقد أقر وزير المستعمرات موافقته على هذا الإجراء الذي اتخذته حكومة الانتداب لكن مدير الأمن البريطاني استقال احتجاجا على هذا الموقف.
في خريف 1935 بينما كانت عمليات التهويد قائمة على قدم وساق زار آرثر واكهوب لندن ، وأقامت له المنظمات الصهيونية حفل تكريم حضره ماكدونالد وزير المستعمرات الذي ألقى كلمة قال فيها " .. لقد غدت نبوءة وايزمان حقيقة واقعة .. وعاد اليهود إلى بلادهم .. ولو لم تصدر الحكومة البريطانية تصريح بالفور سنة 1917 لأصدرناه الآن " . عقب ذلك نشطت الحركة الوطنية الفلسطينية وأعلن العرب عقد مؤتمر شعبي في نابلس نوفمبر 1917، وتقرر القيام بإضراب عام احتجاجا على التواطؤ
العلني بين بريطانيا والصهيونية العالمية ولمواجهة ظاهرة تسليح اليهود التي تفاقمت حدتها بعد أن ضبطت كمية من الأسلحة مهربة لليهود من ميناء حيفا في أغسطس 1935.
لاحت في الأفق ملامح التحفز بين العرب لوقف مظاهر التهويد باستخدام القوة . وتشكلت جماعة سرية عربية في حيفا في نوفمبر 1935 برياسة عز الدين القسام أحد علماء فلسطين ، عرفت باسم " جماعة عز الدين القسام " ، هدفها الجهاد المسلح والفتك بكل من الإنجليز واليهود، ونجحت في عدة عمليات في إلحاق خسائر فادحة بهم . وتصدت القوات الحكومية لتلك العناصر. وأسفرت المواجهات عن استشهاد مؤسس الجماعة المناضل عز الدين القسام وأربعة من رفاقه . وتحولت جنازة الشهداء إلى مظاهرة شعبية رائعة أثارت ثائرة الإنجليز الذين تحرشوا بالمشيعين ، وكان لهذا الحادث أثره في هز مشاعر العرب في البلاد كلها وإيذانا بقيام الثورة العظمى سنة 1936 .
ثانيا : الثورة الفلسطينية الكبرى 1936ـ 1939
عملت السلطات على الحد من التيار الثوري فقامت في مارس 1936 بتعديل قانون المطبوعات لسنة 1933 بهدف وضع قيود صارمة على الصحافة . وبناء على هذا التعديل منح المندوب السامي سلطات أوسع لتعطيل الصحف وإغلاقها نهائيا إذا لزم الأمر دون أن يلزم بإبداء الأسباب التي دعته إلى ذلك . بيد أن ، السلطات البريطانية لم تفلح رغم ما استخدمته من أساليب قمعية في تطويق المد الثوري . فقد نما الوعي القومي لدى عرب فلسطين بشكل ملحوظ ، ولعبت الصحافة [ رغم ما تعرضت له من إجراءات تعسفية ] دورا هاما في تحقيق ذلك ، إضافة إلى مجموعة الأحزاب السياسية والجمعيات الوطنية التي ساعدت بدورها في إشعال جذوة الحركة الوطنية الفلسطينية رغم ما بدا فيما بينها من اختلافات بشأن وضع بريطانيا في فلسطين . وقد نشبت ثورة عارمة استمرت زهاء ثلاث سنوات[ منتصف أبريل 1936 ـ يونيو 1939]
• المرحلة الثورية الأولى أبريل ـ أكتوبر 1936
بدأت الثورة بعدما تشكلت في نابلس لجنة قومية دعت إلى إضراب عام يستمر حتى توقف الهجرة ، ثم توالى تشكيل لجان قومية في كل مدينة وقرية تشرف على الإضراب العام المستمر ، وغدت تلك اللجان عنصرا بارزا في الحياة السياسية لعرب فلسطين خلال فترة الثورة .
ثم تكونت اللجنة العربية العليا التي تشكلت من رؤساء الأحزاب الرئيسية واللجان القومية في 25 أبريل 1936 ؛ وتولى الحاج أمين الحسيني رئاستها وحلت محل اللجنة التنفيذية العربية .وتمت هذه الخطوة الوحدوية تحت ضغط الرأي العام الذي هاله تعدد الأحزاب والخلافات الناشبة بينها.
ازداد النشاط السياسي وارتفعت درجة الحماس الوطني ، وتعددت الاشتباكات مع قوات الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية وكثر عدد الشهداء العرب. ثم عقد مؤتمرا عاما بالقدس في مايو قرر الامتناع عن دفع الضرائب حتى توقف الهجرة ، فكان القرار بمثابة إعلانا للعصيان المدني وخطوة نحو الثورة . لكن السلطات تمادت في غيها وأعلنت جدولا للهجرة يقضي بإدخال 4500 مهاجر في النصف الثاني من السنة ، واشتدت نقمة العرب وازدادوا اعتقادا أن الثورة المسلحة هي أفضل وسيلة لدرء خطر تهويد البلاد . هكذا انتقل كفاح العرب من مرحلة الإضراب والمظاهرات إلى الثورة المسلحة ، فقاموا بعدة عمليات انتقامية مثل نسف الجسور والقطارات وقطع خطوط البرق والتليفون وإتلاف الأشجار المثمرة في المستعمرات اليهودية وقتل سكانها وإحراق مصانع اليهود واغتيال رجال الأمن البريطانيين واليهود خاصة الذين اشتهر عنهم التنكيل بالعرب . وقد امتازت ثورة 1936 خاصة مرحلتها الأولى التي انتهت في أكتوبر من نفس العام بعنفها واستمرارها واحتوائها الشعب الفلسطيني بكل فئاته وعناصره بما فيهم موظفي الحكومة الذين لم يهتموا بأمر إقالتهم وقطع أرزاقهم .
الإجراءات والوسائل القمعية لمواجهة الثورة
اتخذت السلطات إجراءات قمعية وتعسفية ولجأت إلى استخدام واسع للقوة بهدف البطش بالثوار وإيقاف الثورة . ولم تقل حدة الإجراءات عن تلك التي مارستها السلطات من قبل إن لم تكن قد أضافت إليها إجراءات أخرى أشد فتكا بسبب قوة الثورة وشدة بأسها . ويمكن تحديد تلك الإجراءات فيما يلي
1. الاعتقالات :
توسعت السلطات في تطبيق أسلوب الاعتقال على نطاق واسع أثناء الثورة شملت معظم العناصر الوطنية . كما توسعت في إنشاء المعتقلات مثل معتقل عوجة الغفير وصرفند . وقدر أن عدد المعتقلين لم يقل عن 1200 شخص من مختلف الفئات والطبقات عند اندلاع الثورة . ولم تمانع السلطات أحيانا في إخراج شخص أو أكثر من المعتقل لمدة يوم أو أكثر بهدف المساعدة في تهدئة العناصر الثورية القيادية(2). وباتساع الثورة ارتفعت المعتقلات إلى 14 معتقل وعدد الذين اعتقلوا بصرف النظر عن طول المدة أو قصرها إلى ما يقرب من 50 ألف . كما بلغ عدد الذين حوكموا بعقوبات مقيدة للحرية لمدد طويلة حوالي ألفين من بينهم شيوخ ونساء ، أما عدد الذين أعدموا شنقا فقد بلغ 146 ثائرا .
2. التضييق الاقتصادي :
توسعت السلطات في تطبيق المادة الرابعة من قانون العقوبات المشتركة . حيث أجبر سكان المناطق التي شملتها الاضطرابات على دفع أموال ما أسمته الزيادة في نفقات تدبير قوات ضخمة . وطبقت المادة الخامسة من نفس القانون التي تقضي بفرض غرامات مشتركة على جميع سكان أية قرية أو مدينة يرتكب أحد أبنائها جرما معينا.
3. مصادرة الصحافة الوطنية :
قامت السلطات بتعطيل معظم الصحف العربية الوطنية . ففي صيف 1937ـ مثلا ـ عطلت صحف " اللواء " و " الدفاع " و " الجامعة الإسلامية ". وظهر أن الأخيرة كانت أكثر الصحف تعطيلا وكذلك " اللواء " أما صحيفة " فلسطين " الناطقة بلسان حزب الدفاع الوطني كانت أقلها تعطيلا.
4. تعزيز الإجراءات العسكرية :
استدعت الحكومة البريطانية في مايو 1936 قوات عسكرية إضافية من خارج فلسطين لضرب مواقع الثوار . وعين الجنرال " جون ديل " رئيس أركان القوات العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط رئيسا للقوات البريطانية في فلسطين وأطلقت يده في اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على الثورة . وبلغت جملة القوات العسكرية البريطانية المتواجدة في فلسطين في بداية أغسطس 1936 نحو 20 ألف جندي بكامل معداتهم العسكرية .
• وساطة بعض ملوك العرب وإيقاف الثورة
بجانب الإجراءات السابقة لجأت بريطانيا إلى الأسلوب الدبلوماسي لوقف الثورة. ولا غرابة في ذلك فالثورة نقلت قضية فلسطين من نطاق محلي محدود إلى نطاق عربي وعالمي لاسيما وأن جماعات من العرب من خارج فلسطين شاركوا بشكل فعال في أحداثها عن طريق التطوع ، وإمداد الثوار بالعتاد والسلاح والمال وسقط على أرض المعارك شهداء من عدة بلدان عربية مثل سورية والعراق وشرقي الأردن . وطالب الرأي العام العربي في كل مكان الدول العربية الكبرى ومن بينها مصر بضرورة اتخاذ إجراءات فعالة لإنقاذ فلسطين من مؤامرات الاستعمار والصهيونية ، وبعبارة أخرى فقد أوجدت الثورة تضامنا عربيا لم يكن ظاهرا من قبل.
كان آرثر واكهوب المندوب السامي قد اجتمع في صيف 1936مع الأمير عبد الله عدة مرات أملا في الوصول إلى طريقة لإقناع عرب فلسطين بإنهاء الثورة التي كبدت بريطانيا خسائر فادحة في الأموال والأرواح. رحب الأمير عبد الله باتصالات المندوب السامي من أجل إنهاء الثورة . وكمن وراء هذا الترحيب عدة بواعث : إرضاء الإنجليز، الاحتفاظ بعلاقات ودية مع الصهيونية ، كسب زعامة داخل فلسطين تساعده في تحقيق حلم قديم ظل يراوده بضم جزء من فلسطين كخطوة لإنشاء دولة سورية الكبرى ، إضعاف الجبهة الوطنية التي كانت تتزعم الثورة وتعارض مشروعاته التوسعية بتصفية القضية واقتسام فلسطين مع اليهود. واتصل الأمير عبد الله بزعماء الثورة ودعاهم لزيارته في عمان واقترح عليهم إنهاء الثورة ، ووعدهم بأن الحكومة البريطانية ستعيد النظر في موقفها من المسألة الفلسطينية . واشترط الزعماء الفلسطينيون أن توقف السلطات البريطانية الهجرة اليهودية فورا وأن يكون الاتصال بينها وبينهم مباشرا [ والشرط الأخير تعبيرا مهذبا عن رفض وساطة عبد الله ].
ثم تدخل في الوساطة عميل بريطاني شهير هو نوري السعيد وزير خارجية العراق ، فعرض على اللجنة العربية العليا استعداد حكومة بغداد لبذل مساعيها الحميدة لدى الحكومة البريطانية كي توقف الهجرة اليهودية مؤقتا انتظارا لمجيء لجنة تحقيق ملكية كانت بريطانيا قد أعلنت عن عزمها بمجرد اندلاع الثورة إيفادها إلى فلسطين وكتابة تقريرها ، واقترح عليهم وقف الأعمال الثورية . وأبدى أعضاء اللجنة استعدادهم لقبول وساطة نوري السعيد مادامت الحكومة البريطانية مستعدة لقبول المبدأ الأساسي المتمثل في إيقاف الهجرة . ثم أصدرت اللجنة العربية بيانا طالبت فيه باستمرار الثورة حتى تتم الوساطة . لكن بريطانيا لم تقبل بضغوط من الصهيونية العالمية وقف الهجرة .
ثم تدخلت حكومات السعودية واليمن خريف 1936، وتلقت اللجنة العربية نداءً من الملك عبد العزيز آل سعود يدعو إلى إنهاء الثورة وأن بريطانيا حالما يحدث ذلك مستعدة لبحث مطالب عرب فلسطين بروح عادلة. ولاشك أن بريطانيا رفضت إعطاء وعد صريح بوقف الهجرة واكتفت بوعد عام بدرس القضية الفلسطينية بما أسمته روح الإنصاف أو العدل وهو ما يعفيها من أي التزام محدد . ثم توالت النداءات من الملك غازي ملك العراق الإمام يحيي إمام اليمن والأمير عبد الله وكلها تحمل نفس المعنى مما يدل على وجود اتفاق مسبق بينهم على الصياغة اللفظية. فأجابت اللجنة باستعداد الأمة تلقي النداء إذا كان الملوك والأمراء مطمئنين إلى جدية الحكومة البريطانية .
لاشك أن الإجراءات القمعية التي اتخذت لإجهاض الثورة ونداء ملوك العرب أثرت بقوة في مسيرتها في تلك المرحلة ، التي انتهت في 22 أكتوبر 1936 واستمرت قرابة ستة أشهر، ضحى خلالها الفلسطينيون بما يقرب من ألف شهيد بجانب ثلاثة آلاف آخرين زجت بهم السلطات في السجون والمعتقلات . هكذا أفلحت بريطانيا في مواجهة المد الثوري وكان عليها أن تفي بوعدها بحث مطالب العرب بروح الإنصاف!.
• لجنة بيـل ومشروع التقسيم لسنة 1937تشكلت في أغسطس 1936 لجنة ملكية بريطانية ترأسها لورد بيل Peel وزير الهند للبحث في أسباب الاضطرابات وتقصي شكايات العرب واليهود من غير تعرض لنصوص الانتداب . وعرفت اللجنة أحيانا باسم " اللجنة الملكية " The Royal Commission . وضح منذ البداية التزام اللجنة بصك الانتداب ومبدأ تهيئة فلسطين سياسيا وإداريا واقتصاديا بما يكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي . وغني عن البيان أنه التزام يأتي دائما في مصلحة الصهيونية ويعصف بحقوق العرب ويفرغ تماما مقولة بريطانيا بوجود التزامات مزدوجة على عاتقها نحو العرب واليهود من أية قيمة حقيقية تعود على العرب . وهو التزام أفشل مهمة اللجنة قبل أن تبدأها فمظالم العرب منشأها صك الانتداب بما حمله من دعوى إلى بناء الوطن القومي. وزاد من صعوبة المهمة أن الحكومة البريطانية أعلنت تمسكها بعدم إدخال تعديل على سياستها إلى أن تضع اللجنة تقريرها بما في ذلك استمرار الهجرة اليهودية. وذكر بيان رسمي أن فلسطين بصدد استقبال المهاجرين جدد من العمال اليهود بشكل استثنائي بواقع 1800 عامل شهريا خلال ما تبقى من عام 1936 إضافة لأنواع الهجرة التي كفلها القانون .
كان لهذا البيان أسوأ الأثر في نفوس عرب فلسطين وبادرت اللجنة العربية العليا إلى إعلان مقاطعة لجنة بيل مقاطعة تامة . ومن ثم عندما وصلت الأخيرة نهاية نوفمبر لم يرحب بها سوى اليهود والإنجليز وحدهم . وأرسلت اللجنة العربية بيانا إلى لجنة بيل أعربت فيه عن أسفها عدم التعاون معها وأضحت أن موقفها لا يعبر عن شك في نزاهة أعضاء اللجنة إنما هو استنكار لبيان الحكومة الداعي إلى استمرار الهجرة .
ثم تدخل الملوك العرب مرة ثانية بطلب من بريطانيا لإقناع أعضاء اللجنة العربية بالحضور أمام لجنة التحقيق الملكية وأدى عبد العزيز آل سعود ملك السعودية وغازي ملك العراق وعبد الله أمير شرقي الأردن نفس الدور الذي لعبوه مسبقا وتمكنوا من إقناعهم بالثقة في بريطانيا التي تعمل على الاستجابة لمطالبهم وأهمها توفير حياة عادلة وكريمة في بلادهم. هكذا أساء الملوك العرب تقدير الموقف وأحسنوا الظن ببريطانيا التي ما فتئت على انتزاع فلسطين وتسليمها لليهود (1).
استجابت مرة أخرى اللجنة العربية لنداء ملوك العرب ووافقت أوائل 1937 على الحضور بكامل هيئتها أمام اللجنة الملكية بعد أن مكثت 57 يوما وعقدت 55 جلسة في غيبة العرب ولم يكن في مقدور لجنة بيل تخصيص سوى 5 أيام فقط لسماع أقوال العرب بحجة عدم استطاعتهم إطالة مكثهم أكثر من ذلك. وبلغ عدد شهود الإنجليز واليهود مائة في حين بلغ شهود العرب أثنى عشر فردا عقدت معهم 10 جلسات فقط. بذلك عقدت اللجنة 66 جلسة منها 31 جلسة علنية وفوت العرب على أنفسهم فرصة الإدلاء بشهادة واسعة تفصح عن دقائق أوضاعهم المتردية بينما نجح الإنجليز واليهود في التعبير عن كل ما تراءى لهم
جاء قرار لجنة بيل في يوليو 1937 يوصي لأول مرة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود بإقامة دولتين مستقلتين. وتبين من نشاط اللجنة بيل بشكل عام أنها ناقشت مع الصهيونيين قبل أن تستمع إلى العرب فكرة التقسيم وأن شهادة العرب لم تغير من نيتها . وبينما توفر للدولة اليهودية وفقا لتقرير اللجنة مقومات وإمكانات اقتصادية وإقليمية وبشرية وسياسية كاملة جاءت الأخرى فقيرة في إمكانياتها الاقتصادية ووضعها الاستراتيجي بقدر يجعل بإمكان الدولة اليهودية اغتيالها متى شاءت.
شملت الدولة العربية المقترحة إمارة شرقي الأردن وغزة وبئر سبع وصحراء النقب والجليل ونابلس والقسم الشرقي من مناطق طولكرم وجنين وبيسان ويافا . أما الدولة اليهودية فشملت منطقتي حيفا والجليل بما فيها صفد وعكا وجميع السهل الساحلي من أسدود إلى الشمال بما في ذلك سهل مرج ابن عامر على أن توضع مدن طبرية وصفد وحيفا وعكا تحت إدارة الدولة المنتدبة بصفة مؤقتة قبل إلحاقها بالدولة اليهودية. وطالبت اللجنة بمنطقة انتداب دائم ، شملت القدس وبيت لحم والناصرة وحوض بحيرة طبرية بهدف حماية الأماكن المقدسة وتسهيل وصول الزائرين إليها .
وتشير تطورات الأحداث ومواقف اللجنة أن بعض من أعضائها لم يكن فوق مستوى الشبهات وأنهم كانوا أدنى إلى التحيز الصارخ للصهيونية من التزام الحيدة وأنها بنيت قرارها على افتراض أن لليهود حقوق أكثر من العرب في فلسطين وهو افتراض ظالم لم يبن على تقدير سليم لا تاريخيا ولا واقعيا . ومع ذلك تعتبر هذه اللجنة من أهم لجان التحقيق التي تعرضت لقضية فلسطين في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية. ويكفي للتدليل على أهميتها أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أخذت من حيث المبدأ بتقسيم فلسطين الذي اقترحته لجنة بيل بعد عشر سنوات من تقديم اقتراحها .
بيد أن بريطانيا شجعت مشروع التقسيم الذي أصدرته اللجنة واعتبرته أساسا يمكن الاستناد إليه للقضاء على أسباب الصراع العربي اليهودي ، لكنها لم تلبث أن أدخلت تعديلات عليه تتفق ووجهة نظر اليهود لاسيما بشأن القدس التي طالبت المنظمة الصهيونية بتبعية الأحياء اليهودية بها للدولة المقترحة.
أحيل موضوع التقسيم إلى عصبة الأمم سبتمبر 1937، وأبدت بريطانيا عزمها تنفيذه بمجرد موافقة العصبة. ورفضت مصر والعراق المشروع وقدمت الأولى مشروعا بديلا يحفظ لعرب فلسطين حقوقهم الطبيعية ، ممثلا في قيام دولة موحدة يكون الحكم فيها للأغلبية العربية مع حفظ كافة حقوق اليهود. كذلك رفضته دولا أخرى مثل ألبانيا وإيران وأفغانستان وهايتي وفرنسا وأيرلندا ، بينما انحازت إليه أخرى مثل النرويج وبولندا ورمانيا وأورجواي ولتوانيا ولاتفيا مؤيدة حقوق اليهود في فلسطين وأخيرا وافق مجلس العصبة على أن توفد بريطانيا لجنة فنية خاصة إلى فلسطين لوضع خطة مفصلة لمشروع التقسيم وتخطيط الحدود. وأثناء الاستعداد لإرسال اللجنة الفنية عين ماكدونالد وكان من غلاة أنصار التهويد وزيرا للمستعمرات ومثل تعيينه في هذا المنصب صدمة للعرب ودليلا على إمعان بريطانيا في خطتها الهادفة إلى إنشاء دولة يهودية. وقد أرسلت بالفعل اللجنة الفنية إلى فلسطين نهاية أبريل 1938 باسم لجنة وودهيد ، ووضعت تقريرها نهاية نوفمبر من العام نفسه. وجاء التقرير مستفيضا في مجلد ضخم ، وانتهى إلى أن مشروع التقسيم ليس مشروعا عمليا لأن فلسطين بلدا صغيرا ، كما أنه في حكم الاستحالة ضمان وضع حدود آمنة بين الجانبين العربي واليهودي .
• مؤتمر بلودان سبتمبر 1937
دعت الدول العربية إلى عقد مؤتمر عربي لبحث مستقبل فلسطين ، شاركت فيه كل من مصر وسورية ولبنان والعراق والسعودية وشرقي الأردن بالإضافة إلى ممثلين عن اللجنة العربية العليا بفلسطين. واجتمع المؤتمرين في مصيف بلودان بسورية سبتمبر 1937، وبلغ المدعوين 450 عضوا ، واستمرت جلسات المؤتمر ثلاثة أيام شكلت خلالها ثلاث لجان [ سياسية ومالية وإعلامية ] لدعم نضال عرب فلسطين . واتخذ المؤتمر عدة قرارات هامة :
• فلسطين جزء لا يتجزأ من الأمة العربية .
• رفض تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها .
• إلغاء الانتداب وتصريح بالفور وإبدالهما بمعاهدة مع بريطانيا تضمن للشعب العربي في فلسطين استقلاله وسيادته .
• تأليف حكومة دستورية يكون للأقليات فيها ما للأكثرية من الحقوق والواجبات وفقا للمبادئ الدستورية العامة .
كما أعلن المؤتمرون أن استمرار الصداقة بين الشعبين العربي والبريطاني يتوقف على تحقيق المطالب السابقة ، وأن إصرار بريطانيا على سياستها في فلسطين يرغم كل العرب على اتخاذ اتجاهات جديدة ، كما أن الائتلاف بين العرب واليهود لا يتم إلا على هذه الأسس
• المرحلة الثورية الثانية [ أغسطس 1937ـ سبتمبر 1939 ]
تجمعت من جديد عوامل الثورة الكامنة في النفوس واستأنف العرب نضالهم السابق منذ أغسطس 1937 فقد فشلت جهود الوساطة العربية وسعت بريطانيا لإقامة دولة يهودية وأبدت عصبة الأمم ميلا إلى تأييد مشروع التقسيم. واشترك في الثورة أبناء فلسطين بجميع فئاتهم وتسابقت المدن والقرى إلى بذل العطاء بلا حدود وشكلت محاكم ثورية لمحاكمة المقصرين من الموسرين من عرب فلسطين الذين آثروا السلامة أو لم يشاركوا في الثورة بمحض إرادتهم .
سافر ماكدونالد إلى فلسطين بينما كانت الثورة قد بلغت أوجها وازدادت انتصاراتها إلى حد تدهور معه موقف الإنجليز واليهود ، ولما عاد أذاع خطابا جاء فيه " .. إن فلسطين أسوأ بلد في العالم .. وقمع الثورة ليس بالسهولة التي يظنها البعض" ومع تصاعد أحداث الثورة تدريجيا قامت حكومة الانتداب في نهاية سبتمبر 1937 بحل اللجنة العربية العليا وجميع اللجان القومية المنتشرة في مختلف المدن ، وعزل المفتي " أمين الحسيني " من رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى والأوقاف واستمرت في تطبيق أحكام قانون الطوارئ في أرجاء البلاد.
استغل اليهود مشروع التقسيم وتجدد الثورة وأخذوا يوسعون نطاق مستعمراتهم ويعززونها بقوات عسكرية يهودية ، وسمحت السلطات بدعم قوات الشرطة اليهودية حتى بلغت 5000 فرد وزودت اليهود بالأسلحة ويسرت لهم وسائل التدريب العسكري وتكونت فرق عسكرية يهودية انبثقت من الهاجاناه [ القوات اليهودية الرئيسية في فلسطين ] ونجح اليهود في مناسبات عدة في اغتيال عناصر ثورية من العرب وعدد من المدنيين العزل.
لم ترهب القوات البريطانية التي تدعمها الأسلحة الثقيلة الثوار الذين واصلوا مسيرتهم المظفرة في أرجاء البلاد . غير أن بريطانيا سارعت بتعزيز قواتها بأعداد هائلة وقوات ضخمة مدربة وأرسلت ألمع قوادها العسكريين لضرب الثوار وأوغلت بريطانيا في أعمال البطش والتنكيل فكانت تنسف البيوت وتشرد السكان لأبسط الشبهات وتفرض العقوبات الجماعية وحظر التجول على القرى(3) أخفقت هذه الإجراءات التعسفية والقمعية في تخفيف حدة الثورة . وسيطر الثوار على المدن الواحدة تلو الأخرى ونسفوا المباني الحكومية وهاجموا المستودعات واستولوا على ما فيها من أسلحة وذخائر. ثم عمدت سلطات الانتداب إلى الاستفادة من الفوضى التي عمت البلاد أوائل 1939 وأوعزت لعملائها اغتيال بعض الثوار بهدف التخلص منهم من ناحية واستفزاز الجماعات الثورية بعضها ضد بعض من ناحية أخرى . وورد ذكر لحادثة تشير إلى تورط السلطات ، فيما ذكره" فخري البارودي" رئيس المكتب العربي القومي في دمشق بأنه التقى بأحد الأشخاص الذي أخبره أن القنصلية البريطانية في دمشق كلفته بواسطة أحد كتابها اغتيال " دروزة " و " أكرم زعتير " وتبين فيما بعد أن هذا الشخص جاسوس للقنصلية البريطانية ومكلف بمراقبة بعض المجاهدين . ثم نجحت السلطات في إقناع فخري النشاشيبي وهو من العناصر المعارضة للأسلوب الثوري في مواجهة الاستعمار والصهيونية وأحد أقطاب حزب الدفاع في تشكيل ما سمى " فصائل السلام " وكانت عبارة عن مجموعات مسلحة اتخذت شكل الثورة المضادة . وحصلت هذه المجموعات على السلاح من السلطات ، والهدف منها إضعاف الثورة وتشويه سمعتها في الداخل والخارج .
باقتراب نذر الحرب العالمية الثانية أصدرت السلطات أنظمة الدفاع " الطوارئ " لسنة 1939 بهدف تشديد الرقابة على مختلف الأنشطة السياسية وتحركات الأفراد ، وغير ذلك من الأمور التي تحد من قدرة القوى الوطنية على التحرك . بنشوب الحرب أوائل سبتمبر 1939 توقفت الثورة تماما وتهيأت البلاد لدخول مرحلة جديدة في الصراع مع حكومة الانتداب من أجل تحقيق المطالب الوطنية. وبلغ عدد الشهداء نحو 6000 بالإضافة إلي عدد كبير من الجرحى. ورغم انتهاء الثورة فإن السلطات لم تفرج عن المعتقلين وتعف عن الضرائب المتراكمة وتسمح للذين هم خارج فلسطين بالعودة إليها .
• مؤتمر لندن 1939[ المائدة المستديرة ]
أعلنت الحكومة البريطانية عقب فشل مشروع لجنة بيل بتقسيم فلسطين عن عزمها عقد مؤتمر في لندن تحضره الدول العربية المجاورة وممثلين عن عرب فلسطين وعن الوكالة اليهودية للتداول معهم حول السياسة المقبلة بما فيها مسألة الهجرة . واحتفظت الحكومة البريطانية لنفسها ـ فيما يتعلق بتمثيل عرب فلسطين ـ بحق رفض قبول " الزعماء الذين تعدهم مسئولين عن موجة العنف التي اجتاحت البلاد " .
بدا أن بريطانيا تسعى إلى تغيير سياستها في فلسطين بالقدر الذي يخفف حدة التوتر القائم خاصة مع اقتراب نذر الحرب العالمية الثانية وظهور تضامن عربي وإسلامي قوي . وتغيرت لهجة صحف بريطانيا فتكلمت عن ضرورة تغيير سياسة الحكومة تجاه فلسطين ، وذهبت إلى أن القضية لا تحل بالقوة ، وأن اليهود نالوا من المساعدات ما يكفيهم ويفي بالتعهدات التي قطعتها لهم بريطانيا .
انعقد المؤتمر فيما بين شهري فبراير/مارس 1939 واتخذ شكل مجموعة من المؤتمرات الفرعية بريطانية عربية من جهة وبريطانية يهودية من جهة أخرى ، بعد أن رفض ممثلو العرب الاعتراف بالوكالة اليهودية والدخول في حوار مباشر معها . ومع أنه تم جمع الأطراف الثلاثة البريطاني العربي اليهودي في لقاءات مشتركة آخر المؤتمر ، فقد انتهى إلى الفشل الكامل نظرا للهوة الكبيرة التي فصلت بين الموقفين العربي واليهودي . فقد أصر العرب إصرارا تاما على استقلال فلسطين وعروبتها مثلها مثل سائر الأقطار العربية الموضوعة تحت الانتداب بينما تسلح الصهيونيون بتصريح بالفور وما تلاه وبوضعية اليهود أمام النظام النازي في ألمانيا.
• الكتاب الأبيض لسنة 1939
أمام فشل مؤتمر لندن أقدمت بريطانيا مايو 1939 على إصدار كتاب أبيض جديد حول قضية فلسطين ، حددت فيه موقفها ورسمت فيه السياسة التي تنوي اتباعها . ويعتبر هذا " الكتاب الأبيض " بمثابة تحول هام في موقف بريطانيا من فلسطين ، إذ أبدت فيه تفهما لوجهة النظر العربية بدرجة لم تحدث من قبل . وكان هذا الكتاب أساس الخلاف الصهيوني البريطاني الذي بدأ وامتد حتى الأربعينات . وجاء في كتاب 1939 أن " .. الحكومة البريطانية تعلن اليوم دون أي إبهام أنه ليس واردا في سياستها تحويل فلسطين إلى دولة يهودية .. وليس واردا لديها تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية " وأعلنت أنها ستنهي انتدابها عام 1949 وأن هدفها في السنوات العشر القادمة " .. إقامة دولة فلسطين المستقلة والموحدة " .
تضمن الكتاب الأبيض لسنة 1939 إشارة إلى الحد من الهجرة اليهودية وفقا لما يلي : قبول 75 ألف مهاجر يهودي جديد كحد أقصى على امتداد خمس سنوات ، وبعدها تخضع الهجرة " لموافقة عربية " كما أشار أيضا إلى الحد من تملك اليهود للأراضي وتنظيم عملية انتقال الأراضي الأميرية إليهم ، بحيث لا تؤدي إلى اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم ، وحصر عملية تملك اليهود لهذه الأراضي في مناطق تعين خصيصا لذلك حتى يتم تفادي الاحتكاك بين الجانبين العربي واليهودي قدر المستطاع .
لاشك ، أن كتاب 39 مثل تغيرا ملحوظا في السياسة البريطانية تجاه فلسطين ، فهي المرة الأولى التي تقدر فيها نسبيا الحقوق العربية وتضع حدا للهجرة اليهودية استجابة لمطالب العرب ورأفة بأوضاع فلسطين المتردية . لهذا فقد غلبت الإيجابية على رد الفعل العربي على كتاب 1939 بينما كان مثار خلاف مباشر بين الجانب الصهيوني والبريطاني.
بيد أن هذا التحول سواء كانت بريطانيا جادة فيه أم أنه مجرد عمل تكتيكي تحت وطأة ثورة 36ـ1939 ولاسترضاء المنطقة العربية عشية الحرب العالمية الثانية فإنه جاء متأخرا عن موعده ولم يعد تنفيذه يحقق سوى نتائج محدودة للغاية بالنسبة لمستقبل فلسطين العربي . فقد كان الواقع البشري في فلسطين قد تغير تغيرا كبيرا خلال العقدين اللذين امتد فيهما الانتداب البريطاني ، وبلغ عدد اليهود ما يناهز نصف مليون نسمة في ذلك الوقت بينما كان وقت احتلال فلسطين لا يزيد عن 10 آلاف نسمة وقد أصبح مجتمع اليهود مجتمعا له حياته الداخلية الخاصة وأصبحت له مؤسساته بما فيها مؤسساته العسكرية ، فضلا عن تفوقه التكنولوجي والتنظيمي والإداري والمالي وعلاقاته الدولية المتشعبة التي رسمتها الحركة الصهيونية خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق