تاريخ فلسطين من 1917-1920م
أولا: الحكم العسكري البريطاني 1917 ـ 1920
كانت فلسطين أثناء العهد العثماني جزءا من سورية أو بلاد الشام ، وبالتالي لم تكن تمثل حتى 1917 وحدة إدارية مستقلة ، ولم تختلف أوضاع سكانها السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن مثيلاتها في بقية أجزاء سورية . كما كانت الحركة الوطنية الفلسطينية ، وما اقترن بها من نشاط سياسي تعمل في الإطار العام للحركة الوطنية في سورية ، وإن تميزت عن الحركة الأم بظهور الإرهاصات الأولى بالنضال ضد النشاط الصهيوني ؛ الذي استهدف فلسطين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
• تحالف الاستعمار والصهيونية
أسفرت الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918 عن مواجهة غير متكافئة بين عرب فلسطين وكل من : بريطانيا التي خرجت من الحرب أكبر دولة استعمارية في العالم ، والحركة الصهيونية العالمية التي كانت قد بدأت أولى خطواتها الجادة لسلب فلسطين منذ مؤتمر " بال " بسويسرا 1897 .
وربما كان أهم ما أفضت إليه ظروف الحرب هو صدور تصريح بالفور في الثاني من نوفمبر 1917 ، الذي أشار إلى عطف بريطانيا على أماني اليهود بجعل فلسطين وطنا قوميا لهم . وقد دخلت بموجبه الحركة الصهيونية طورا خطيرا للغاية كان له أكبر الأثر في إنجاح مخططات الحركة في بناء وطن قومي لليهود في فلسطين.
وتوثقت العلاقات بين الحركة الصهيونية وبريطانيا في أعقاب صدور التصريح في ظل اشتداد التنافس الاستعماري البريطاني ـ الفرنسي على مناطق الاستعمار في المشرق العربي ، مما جعل بريطانيا تسعى جاهدة فيما بين عامي 1918 ـ 1920 إلى دفع الحركة الصهيونية نحو طريقها في إنشاء الوطن القومي الذي اعتبرته في تلك المرحلة أحد أهم وسائلها في التصدي للخطر الفرنسي الذي يحدق بفلسطين ، ولدرجة أنه لم تقم وزنا لحقوق عرب فلسطين سواء بالنسبة لحقوقهم القومية في بلادهم أو حقوقهم المدنية والاقتصادية كسكان يقيمون على أرض فلسطين ، رغم أنها زعمت الحرص على حقوق سكان فلسطين غير اليهود حسب ما ورد بتصريح بالفور .
• سمات الحكم العسكري
شهدت الفترة من 1917 حتى 1920 قيام الحكم العسكري البريطاني المباشر في فلسطين ، وهي من أدق مراحل كفاح الشعب الفلسطيني وبناء الكيان الصهيوني في آن واحد. فقد اتسمت بحرص بريطانيا على تأكيد وجودها العسكري والسياسي في فلسطين، والعمل على دعم الخطوات الأولى للحركة الصهيونية عن طريق تنفيذ تصريح بالفور مع تجنب إبراز الوجه الحقيقي للنشاط الصهيوني بصورة علنية داخل فلسطين بقصد تهدئة سكانها العرب وخداعهم عن طريق إخفاء الحقائق عنهم . ونظرا لأن دور الحكم العسكري تركز في الحفاظ على الحالة الراهنة وقتذاك فإنه لم يهتم بتغيير الإدارة الداخلية التي بقيت كما هي في جوهرها في المناطق التي أقام فيها العرب ، بينما لم تخضع لها المستوطنات اليهودية التي طبقت منذ البداية نظاما مستقلا أشبه ما يكون بالحكم الذاتي لم تتدخل الإدارة العسكرية البريطانية في أي من اختصاصاته .
وبصفة عامة اتصفت فترة الحكم العسكري بأربعة مظاهر رئيسية هي :
•خضوع البلاد للأحكام العرفية
•سيطرة العناصر الصهيونية على الإدارة العسكرية
•عدم الاستعانة بالمواطنين العرب في شئون الحكم والإدارة إلا في أضيق نطاق
•المحافظة على الأنظمة العثمانية في إدارة البلاد بما يتفق وأهداف الحكم العسكري
اصطدمت الإدارة العسكرية بثورة الشعب الفلسطيني ، الذي أظهر مقاومة شديدة لسياسة بناء الوطن القومي ، لاسيما من جانب الفئات الشبابية والمثقفة وأبناء الطبقة الوسطى من صغار الملاك والفلاحين وصغار التجار والحرفيين والمهنيين وصغار الموظفين . وقد حرصت هذه العناصر على تحقيق أهداف ثورية بالانضمام إلى حركة الوحدة العربية مع سورية واستقلال الأخيرة عن التبعية الأجنبية ورأت في هذه الخطوة فرصة طيبة للقضاء على الخطرين الصهيوني والبريطاني.
ثانيا: النشاط السياسي في ظل الحكم العسكري
كان على الإدارة العسكرية أن تواجه هذا التيار الوحدوي وأن تخفف من حدة العداء العربي الفلسطيني للصهيونية ، وتهيئ فلسطين في نفس الوقت لاستقبال أول بعثة صهيونية رسمية بغرض وضع تصريح بالفور موضع التنفيذ .اتجهت الأنظار إلى عناصر النفوذ السياسي التقليدية التي مثلت الفئة العليا في التركيب الاجتماعي الفلسطيني ، وتمتعت بتأثير ونفوذ على الفئات الأخرى. وتمثلت تلك الفئة في زعماء العائلات القوية وكبار ملاك الأراضي وبعض العناصر القيادية التي تحتل مناصب إدارية أو اجتماعية أو دينية مرموقة . وحاولت الإدارة العسكرية أن تجعلها أكثر انجذابا وتعاونا مع السياسة البريطانية بتقديم بعض التسهيلات الاقتصادية ودعم مكانتها السياسية الداخلية . أما تلك الفئة فقد أظهر بعضها بحكم تكوينها التاريخي ميلا نحو مهادنة السلطات البريطانية إن لم يكن تعاونا معها . وقد رأت أن المستقبل ينبغي أن يكون في ضوء ما يمكن تحقيقه من خلال مصادقتها إياها .
وعند وصول البعثة الصهيونية نظمت الإدارة العسكرية اجتماعات جانبية بين عدد من أعيان القدس العرب و " وايزمان " رئيس المنظمة الصهيونية العالمية . ونجح الأخير في طمأنه كافة العناصر التقليدية على بقاء مراكزهم الاقتصادية والاجتماعية بمنأى عن المنافسة الصهيونية . وحدث اجتماع مماثل في مدينة يافا لم يسفر عن تهدئة كتلك التي حدثت في اجتماع القدس . وقد طالب المجتمعون في يافا مع وايزمان الحكومة البريطانية أن تسمح لممثلي الشعب الفلسطيني التعبير عن أمانيهم القومية أمام الهيئة التي ستتولى النظر في مشكلة فلسطين
رأت الإدارة العسكرية إزاء فشل معظم اللقاءات التي أجريت في تحقيق تقارب عربي ـ صهيوني أنه من الأفضل بعث الثقة في نفوس العرب بالسماح لهم بتشكيل هيئات وطنية تعمل في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتخضع لتوجيه وإشراف مجموعة من العناصر التقليدية التي لديها استعداد واضح للتعاون مع السلطات البريطانية .
ثم سمحت السلطات لوفد ضم زعماء سوريين موالين لبريطانيا بزيارة فلسطين أوائل مايو 1918 لتنشيط الدعوة بين الفئات المثقفة والشبابية وأفراد الطبقة الوسطى باستقلال فلسطين عن سورية، وبالتالي إجهاض الدعوة لتحقيق الوحدة بين أقاليم سورية الكبرى الثلاث فلسطين وسورية ولبنان ، وإضعاف التيار الوطني الوحدوي في فلسطين وخلال الاجتماعات التي عقدها هؤلاء الزعماء أعلنوا أنهم ينوبون عن الشعب السوري في دعوتهم لعرب فلسطين بوضع ثقتهم في بريطانيا وطالبوا الطرف الفلسطيني بالتخلي عن الدعوة لوحدة فلسطين مع سورية لأن ذلك سيكون أفضل للبلدين على السواء خاصة وأنه سيمكن بريطانيا من التصدي للمحاولات الفرنسية للهيمنة على سورية ولبنان .
• تشكيل الجمعيات الوطنية الفلسطينية
دعا الوفد السوري بإيعاز من بريطانيا الفلسطينيين إلى تشكيل جمعيات إسلامية ـ مسيحية تهدف إلى التعبير عن مطالبهم السياسية وفق التصور البريطاني بعزل فلسطين إقليميا عن سورية ، وتعمل في نفس الوقت على ترقية شئون الشعب الفلسطيني في مختلف المجالات حتى يتمكنوا من إعداد أنفسهم للحكم الذاتي .
توالى بالفعل إنشاء الجمعيات فيما بين عامي 1918،1919 ، منها ثلاث بالقدس هي : روضة المعارف ، مقتطف الدروس ، الآخاء الأرثوذكسي . وواحدة بيافا هي " الجمعية الأهلية " وكانت ذات أهداف سياسية ، وسعت إلى إجهاض الجهود الصهيونية بوسائل عملية أهمها الحيلولة دون بيع الأراضي لليهود . ثم تغير اسمها إلى " الجمعية الإسلامية المسيحية " في يونيو 1918 (3). وشاركت النساء الفلسطينيات في عملية تكوين الجمعيات ، فأنشئت في يافا أيضا جمعية نسائية عرفت باسم " جمعية النساء العربيات " ، وكانت ذات طبيعة سياسية وعملت على تطوير المجتمع الفلسطيني .
لم تكن هذه الجمعيات ـ رغم حصولها على الضوء الأخضر من السلطات البريطانية ـ تتبنى في مجموعها اتجاهات سياسية موالية لبريطانيا بشكل تام . فمعظمها ركز نشاطه في المجالات الثقافية والاجتماعية . والجمعيات التي تحركت وفق أيديولوجيات سياسية معادية للصهيونية والحكم الأجنبي تجنبت الجهر بالعداء لبريطانيا أو لسياستها الاستعمارية في فلسطين ، حتى لا تتعرض للاضطهاد . أما الأخريات التي عملت في إطار عزل فلسطين عن سورية فقد تجاهلت ـ ربما ـ إلى حين مبدأ ممارسة كفاح وطني ضد الاستعمار البريطاني. غير أن أهدافها المرحلية جاءت إلى حد بعيد متوافقة مع آمال بريطانيا الخاصة بعزل سورية عن فلسطين . وقد حرصت هذه الجمعيات الأخيرة على إظهار الود تجاه السياسة البريطانية وأعلنت ثقتها في الحكومة البريطانية لأنها لم تقف موقفا متشددا بشأن مسألة منح عرب فلسطين الحكم الذاتي في إطار دولة فلسطين المنفصلة إقليميا عن سورية ولأنها تشجع إقامة نظم حكم ديمقراطية تحمي حقوق الأغلبية العربية . ولا ينبغي أن يفهم من موقف الجمعيات التي هادنت بريطانيا أنه يشير إلى اختفاء التيار الوطني داخلها نتيجة الجهود التي بذلتها بريطانيا بالتعاون مع العناصر الموالية لها سواء من داخل فلسطين أو خارجها . ولكن الواقع أن هذا الموقف من جانب الجمعيات يعود في المقام الأول إلى سيطرة العناصر التقليدية عليها .
جدير بالذكر أن السلطات البريطانية وضعت في اعتبارها إمكانية استغلال ظاهرة تكوين الجمعيات في تحقيق تقارب عربي ـ يهودي ، بجانب دورها في توطيد العلاقات بين عرب فلسطين وبريطانيا والاستمرار في محاربة الاتجاهات الوحدوية . لكن ذلك لم يتحقق ، إذ شكلت كافة الجمعيات الموالية لبريطانيا وغير الموالية إلى العناصر الوطنية المنتشرة في فئات المجتمع الفلسطيني والتي مثلت القاعدة العريضة لهذه الجمعيات ما يشبه وحدة وطنية صلبة أظهرت معارضة قوية للصهيونية وتغلغلها في أرجاء فلسطين ، وطالبت الجمعيات دون استثناء بوقف وإلغاء تصريح بالفور وإيقاف كل إجراء يساهم في دعم خطة الصهيونية العالمية في بناء وطن قومي لليهود في فلسطين .
لم يكن من الممكن أن ترضى السلطات العسكرية عن موقف الجمعيات من النشاط الصهيوني ، فقررت أن تخضع نشاطها إلى نوع من الإشراف المباشر ، وفي نفس الوقت جعلتها مسئولة عن أي رد فعل شعبي أو عمل عدائي يرتكب ضد التواجد الصهيوني .
ثم سارعت السلطات بتكوين جمعية جديدة تضم عددا من الموالين من المسلمين والمسيحيين قامت بتعيين كوادرها الإدارية ممن تثق بهم ، وأدخلت بعض التعديلات على عدد من مناصب لواء يافا ، فأقصت قاضي مدينة " جنين " الذي أبدى عداءً قويا لسياسة التهويد ، كما أجرت تعديلات مماثلة في هيئة قضاء عكا . ولاشك، أن هذا التدخل السافر في شئون عرب فلسطين الداخلية دليلا على تصميم الإدارة العسكرية على كبح جماح العناصر الوطنية وتعميق الفجوة بينها وبين قياداتها السياسية لحساب سياسة بناء الوطن القومي اليهودي .
كما سمحت السلطات ـ في مجال تدعيم الارتباط العضوي بين مصالح الطبقة العليا [ العناصر التقليدية ] الذين شكلوا القيادات التقليدية وبين المصالح البريطانية في البلاد ـ بتأسيس " الحزب العربي " ، الذي أقامه بعض ذوي النفوذ وأصحاب الأعمال التجارية في حيفا ، بعد أن أوعزت لهم السلطات أن تشكيل مثل هذا الحزب سوف يساهم في تهدئة الأوضاع واستقرارها ، وهي أمور جوهرية بالنسبة لاستمرار أنشطتهم الاقتصادية ، وقد أشار رئيس الحزب في خطبة ألقاها بمناسبة تأسيسه " .. أن لا حياة ولا نجاح ولا تقدم حقيقي لفلسطين والبلاد العربية إلا بموالاة الأمة البريطانية ، صاحبة الفضل في تحرير البلاد"
ولم يكن غريبا بعد هذه الثقة غير المبررة في دولة احتلال وهذا الاختراق لصفوف الحركة الوطنية أن تنجح بريطانيا في تفتيت أحد أهم جوانب المقاومة الموجهة ضد سياسة بناء الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين. وفي هذا الصدد كتب وكيل وزارة المستعمرات البريطانية " .. إن طبقة الأفندية المسلمين منقسمة على نفسها ، وهي على كل حال لا تجرؤ على الإقدام على أي عمل من شأنه أن يزعج الإدارة العسكرية ". وانسجم هذا الموقف مع قيام بعض العناصر القيادية التقليدية بإعداد احتفالات بمناسبة الذكرى الأولى لاحتلال بريطانيا لفلسطين فيما بين أكتوبر 1918 ونهاية العام في مدن هامة مثل حيفا والناصرة والرملة وعكا .
مع بداية 1919 اتضح أن بريطانيا لن تكف عن دعم وموالاة الحركة الصهيونية ، وتحتم على القيادات السياسية التقليدية أن تصنع لنفسها ما يبرر سلوكها الودي تجاه السلطات البريطانية. فأشاعت أن ثمة قوتين تعملان في فلسطين مستقلتان ومنفصلتان، بريطانيا والحركة الصهيونية، وحاولت من هذا المنطلق ، أن تؤكد أنه لا تعارض بين الوقوف بحزم في وجه الصهيونية وإقامة علاقات ودية مع السلطات البريطانية.وهكذا فات على هذه القيادات أن سياسة بناء الوطن القومي التي تدعمها بريطانيا وتعمل بكل ما أوتيت من قوة من أجل تنفيذها لن تكون إلا على حساب حقوق ومصالح كافة العرب ، بل أنها سياسة سوف تؤدي في النهاية إلى اقتلاع المجتمع العربي الفلسطيني من وطنه . وما كان يجب التفرقة مطلقا بين الحركة الصهيونية وبريطانيا فهما وجهان لعملة واحدة هدفها انتزاع فلسطين وتحويلها إلى دولة يهودية.
في نهاية 1918 شهدت القدس تشكيل أول جمعية سرية تبنت أهدافا ثورية ، سعت إلى تنفيذها بالقوة ، أطلقت على نفسها " جمعية الآخاء والعفاف ". وبمجرد أن تسربت أخبارها إلى السلطات من خلال تقارير بريطانية وصهيونية بالغت إلى حد التهويل في قوتها قام "ستورز" حاكم القدس بنفي ثلاثة من رجالها وهدد أعضائها من الموظفين بإقالتهم من مناصبهم أو نفيهم ، ثم أصدر قرارا بوقف نشاطها . وفي أعقاب ذلك أعلن ستورز أنه سيلقي القبض على أي فلسطيني يجرؤ على الإقدام بالتظاهر ضد الصهيونية ويضعه في السجن .
رغم ذلك لم يلبث التيار الثوري أن أمتد ليشمل مدنا فلسطينية أخرى ، وبمناسبة الذكرى الأولى لتصريح بالفور وقعت مصادمات في يافا بين العرب واليهود حوكم على أثرها اثنان من العرب وصدر ضدهما حكما بالسجن أربعة أشهر (4).
هكذا أظهرت بريطانيا نيتها المبيًتة لاستخدام القوة ضد العرب إذا ما حاولوا الوقوف ضد المشروع الصهيوني . واكتمل
بذلك محور السياسة البريطانية في فلسطين ، الذي تمثل في أربعة محاور رئيسية :
•عزل فلسطين عن سورية
•ضرب الحركة الوطنية الفلسطينية باستقطاب الفئات التقليدية
•تدعيم السياسة الاستيطانية الصهيونية طبقا بتصريح بالفور
•استخدام القوة ضد العرب إذا ما حاولوا التصدي بالقوة للسياسة البريطانية القائمة على دعم الوطن القومي
•المؤتمر الفلسطيني الأول 1919
كانت قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية قد قررت أوائل 1919عقد مؤتمرا شعبيا للنظر في تطورات الأوضاع السياسية . ورأت بريطانيا أن انعقاده فرصة طيبة لاتخاذ قرار بإقامة حكم ذاتي تحت حمايتها ، وإعلان فصل فلسطين عن سورية ، واعتمدت في ذلك على الموالين لها من الوجهاء والقيادات التقليدية [ وقد بلغ عدد الأخيرين في هذا المؤتمر أثنى عشر عضوا من بين ستة وعشرين عضوا تقرر اشتراكهم فيه بنسبة تصل إلى 46% وهي ليست قليلة ] . لكن المحاولة البريطانية باءت بفشل ذريع ، إذ دلت نتائج المؤتمر الذي أطلق عليه " المؤتمر العربي الفلسطيني الأول " عن تضافر جهود القوى الوطنية ونجاحها في السيطرة على مجريات الأمور ، مما أسفر عن اتخاذ قرارات صيغت بلهجة قوية ، أهمها رفض تصريح بالفور والسياسة القائمة عليه والتأكيد على أن فلسطين جزء من سورية التي يجب أن تكون متحررة من جميع أنواع النفوذ والحماية الأجنبيتين .
• لجنة كنج ـ كرين ورد الفعل العربي
لاشك أن تلك القرارات كانت على جانب كبير من الأهمية ، وجاءت مخيبة لآمال بريطانيا ، وبددت كل جهودها السابقة ، مما دفع السلطات العسكرية البريطانية لاتخاذ إجراءات قمعية وتعسفية ، فمنعت لجنة المؤتمر من صياغة قراراته ونشرها على الشعب ، ومنعت وفدا من عرب فلسطين من السفر إلى باريس لعرض المطالب العربية التي بالقرارات على مجلس الحلفاء . كما رفضت أيضا منح الأذن بتوزيع منشور أعدته الجمعية الإسلامية المسيحية بالقدس تضمن وجهة نظرها التي تعتزم عرضها على لجنة كنج كرين King-Crane Commission التي كان من المقرر وصولها إلى فلسطين للتحقق من مطالب العرب القومية ، ذلك لأن المنشور أشار إلى طبيعة الأماني السياسية لعرب فلسطين في الاستقلال ورفض تحول بلادهم إلى وطن قومي لليهود .
وقد جاءت هذه التصرفات مناقضة لما أعلنته السلطات البريطانية في ربيع 1919 بأن على أهالي فلسطين أن يطمئنوا أنه ستكون لديهم فرصة ثمينة لإظهار رغباتهم وآمالهم ، وأن عليهم ألا يهتموا بما يشاع من أخبار تتعلق بمستقبل البلاد السياسي والاقتصادي .
وأثناء زيارة اللجنة سعت السلطات إلى مصادرة حقوق العرب في عرض مطالبهم فأمرت بإزالة اللافتات التي تضمنت شعارات معادية للصهيونية لاسيما من شوارع القدس. وتضمن تقرير لجنة كنج كرين دلائل تشير إلى التدخل في أعمال اللجنة والضغط على الأهالي كي يطلبوا الانتداب البريطاني . وكان مما جاء بالتقرير " .. أن البعض حاول التأثير في أفكار الناس لحملهم على اختيار الانتداب البريطاني .. ويقال أن السلطات الحاكمة هي التي اختارت أعضاء الجمعية الإسلامية المسيحية في يافا وعينت عناصر عربية موالية لها في عدة مناصب هامة بالمدينة .. ويظهر أن حاكمين عسكريين أو ثلاثة حاولوا كسب أصوات لإنجلترا وصدرت الأوامر في يافا بالامتناع عن التصويت للاستقلال التام .
بمجرد أن فرغت السلطات من قمع الرأي العام الفلسطيني أثناء وجود اللجنة استطاعت أن تحاصر جماعة فدائية سرية أنشئت في القدس خلال النصف الثاني من 1919 كانت امتدادا لنظيرتها التي أنشئت تحت اسم " جمعية الآخاء والعفاف " وتمكنت من القضاء على نشاطها .
في نهاية فبراير 1920 انطلقت مظاهرات حاشدة جابت ربوع فلسطين معلنة رفض الشعب العربي الفلسطيني للوطن القومي ولسياسة بريطانيا المؤيدة للصهيونية ، وبالرغم مما أعلنته السلطات من عدم التعرض للمظاهرات السلمية إلا أن فرقة عسكرية إنجليزية يهودية مشتركة قامت بالاعتداء على المتظاهرين في يافا وعلى الممتلكات العربية بالمدينة . كما لم تستجب السلطات لطلب جمعية يافا بإنشاء فرقة مسلحة عربية على غرار تلك التي سمحت لليهود بتشكيلها بزعم القيام بمهام أمنية محددة . ثم قررت السلطات وقف المظاهرات العربية نهائيا في مارس 1920 ، وتسبب هذا الإجراء في ازدياد الاستياء العام .
• الصدام الأول بين العرب واليهود 1920
في الرابع من أبريل 1920 اندلع في القدس أول صدام واسع النطاق بين العرب واليهود . كان منشأه قيام مظاهرة عربية نادت بالوحدة مع سورية وبالاستقلال وسقوط الصهيونية والانتداب ، واستمر مدة أربعة أيام ، وسقط عدد من القتلى والجرحى من الجانبين. فأسرعت السلطات إلى فرض الأحكام العرفية في المدن الفلسطينية الرئيسية خاصة القدس ويافا ، ومنعت دخول أو خروج أحد من مواطني هاتين المدينتين إلا بتصريح من الحاكمين العسكريين للمدينتين . واستدعى الحاكم العام عددا من القيادات السياسية وهددهم باستخدام القوة في المستقبل لوقف أي أحداث من هذا القبيل ، واتهمت السلطات بعض العناصر الوطنية بانتهاك الأمن ، وحكمت على بعضهم غيابيا بالسجن ، واعتقلت عددا آخر ، وأقالت السيد موسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس من منصبه . وشكلت لجنة عسكرية برياسة بالين Palin للبحث في أسباب الصدام ، ووضعت تقريرا جاء به: " أن الصدام يرجع إلى ثلاثة أسباب هي : أ. يأس العرب من تحقيق الوعود التي قطعت لهم أثناء الحرب بالاستقلال . ب. اعتقاد العرب أن تصريح بالفور ينطوي على عدوان على حقهم في تقرير المصير . ج. ازدياد التيار القومي المنادي بالوحدة مع سورية خاصة مع إعلان فيصل ملكا على سورية " ويلاحظ أن هذه اللجنة هي الأولى من نوعها التي سيتوالى تشكيلها للتحقيق في أسباب الاضطرابات واقتراح الحلول .
ثم حالت السلطات دون انعقاد المؤتمر الفلسطيني الثاني المقرر عقده في مايو 1920 لدراسة آثار مقررات مؤتمر سان ريمو على مستقبل الشعب الفلسطيني ، وهو المؤتمر الذي بحث في تسوية المشكلات التي تمخضت عن الحرب العالمية الأولى. فمنعت بالقوة أعضاء المؤتمر من الاحتجاج ، وحاولت إخفاء كل أثر لأي جهد بذل في سبيل انعقاده (1)
لقد كان دافع السلطات العسكرية لهذه الإجراءات القمعية هو دحر المقاومة العربية ضد سياسة بناء الوطن القومي ، وإجهاض كل محاولة فلسطينية ترمي إلى إظهار تمرد أو احتجاج على قرار الانتداب ، وإعداد البلاد لاستقبال أول مندوب سامي بريطاني في ظل الحكم المدني
ثالثا: الإدارة المدنية وحقوق العرب السياسية
أثبتت فترة الحكم العسكري فشل السلطات في اتباع سياسة التهدئة التي كان من المقرر اتباعها ، وإقناع العرب بقبول الوجود اليهودي على أرض فلسطين . كما شهدت الفترة اتخاذ إجراءات استهدفت تمييز اليهود عن العرب مثل الإدارة المستقلة ، وإتاحة حرية سياسية أكبر في التعبير عن أمانيهم وتطلعاتهم ، وفي التنقل والتملك وإقامة المشروعات واستخدام اللغة العبرية في التصريحات السياسية وفي بعض المحررات الرسمية مثل عقود التمليك . وغير ذلك من الأمور التي تقوي الوطن القومي اليهودي على أرض الواقع .
• سمات الحكم المدني البريطاني
كان أول مندوب سامي بريطاني على فلسطين هو اليهودي السير هربرت صموئيل ، وتسلم مهام منصبه في يوليو 1920 . وبمجرد أن وطأت قدميه أرض فلسطين صرح " .. أن حكومته قد وطدت عزمها على إنشاء الوطن القومي لليهود بصفة رسمية " (3)وقد نتج عن التحول من الحكم العسكري إلى الحكم المدني في ظل وجود هربرت صموئيل أن فتحت أبواب فلسطين أمام نشاط صهيوني متزايد ، مهدت له الإدارة المدنية الجديدة بسلسلة من الإجراءات والقوانين ، كان أولها قانون الهجرة الذي أتاح المجال لهجرة اليهود دون قيد .
وجاء تشكيل الحكومة المدنية بمؤسساتها الجديدة بكوادر بريطانية ، شملت أجهزة الحكم المختلفة ، وبرر صموئيل هذا الوضع بقوله " .. عندما ينتهي العمل التمهيدي ويصبح بالإمكان انتخاب كوادر فلسطينية حائزة على مؤهلات مناسبة سوف يتم تقليص عدد الموظفين البريطانيين " لكن ذلك لم ينفذ مطلقا لا من جانب حكومة صموئيل أو أي من الحكومات المتعاقبة.
كما أن التشريعات التي أصدرتها الحكومة الجديدة كانت كثيرة جدا ومتشابهة واقتربت من حالة الفوضى التشريعية . وربما كان ذلك متعمدا حتى تتيه الحقوق وتشتت الجهود وسط هذه الفوضى خاصة وأن رئيس الدائرة التشريعية والقضائية كان صهيونيا عمل بكل جهده من خلال هذه التشريعات على توطيد دعائم الوطن القومي في كافة المجالات
في أوائل أكتوبر 1920 ألف المندوب السامي أول مجلس استشاري بلغ عدد أعضائه عشرين نصفهم من الموظفين الإنجليز والنصف الآخر من السكان بالتعيين ، فكان منهم أربعة مسلمين وثلاثة مسيحيين وثلاثة يهود . ويتضح أن العرب لم يملكوا أكثر من سبعة أصوات لا تصل إلى حدود نصف الأصوات ، بالإضافة إلى أن المجلس لم ينتهج الأسلوب الديمقراطي في اتخاذ قراراته ، كما أن الأعضاء العرب عينوا وفقا لرأي المندوب السامي لا وفقا لرغبات الشعب . والمؤكد أن السلطات المدنية قصدت من وراء ذلك أن تمنح اليهود نصيبا أكبر من نسبتهم العددية فيما لو روعيت تلك النسبة ، وأن تقسم سكان فلسطين إلى طوائف دينية يمكن التعامل معها على هذا الأساس بما يحمله ذلك من إنكار تام لحقوق العرب السياسية في بلادهم ، وبما ينسجم مع المخطط البريطاني ـ الصهيوني في تنفيذ تصريح بالفور الذي يشير إلى سكان فلسطين بأنهم " طوائف غير يهودية " بمعنى أنه لا يوجد بفلسطين سكان يمكن أن يشار إليهم على أنهم شعب له مقومات واضحة وشخصية قومية ووطنية مستقلة عن غيرها من الشعوب الأخرى .
• المؤتمر الفلسطيني الثالث:
إزاء خيبة أمل العرب وخلو الساحة العربية من أي تنظيم سياسي منتخب انطلقت الدعوة لعقد مؤتمر فلسطيني ثالث على لسان بعض القيادات السياسية التي تظاهرت بكسب ود السلطات الجديدة ، وذلك حتى لا يتعرض للفشل ، كما تقرر أن ينعقد المؤتمر في حيفا بعيدا عن أعين الإدارة البريطانية في القدس. لم تجد السلطات مانعا من انعقاد المؤتمر لأنه ضم عدد من العناصر التي تطمئن إليها ، ولأنه جاء بعد سقوط الحكم العربي في دمشق وإجهاض ثورة العشرين في العراق [ كان هذان الحدثان مثلا صدمة عنيفة للحركة الوطنية العربية في فلسطين وأضعفت أملها في التخلص من الاستعمار البريطاني والمخطط الصهيوني ] كما اعتبرت الإدارة المدنية هذا المؤتمر مجالا لتحرك سياسي عربي فلسطيني لا يخشى أثره بقدر ما يترتب عليه ولو جزئيا من امتصاص لنقمة العرب وصدمتهم من الاعتراف شبه الرسمي بانتداب بريطانيا على فلسطين
انعقد المؤتمر في المدة من 13ـ16 ديسمبر 1920، ورفع في 18 منه تقريرا إلى المندوب السامي شمل مطالب العرب الرئيسية وهي :
• رفض سياسة إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين
• وقف كافة الإجراءات التي تقوم بها المنظمات الصهيونية لدعم هذا الوطن المزعوم
• إقامة حكومة وطنية تكون مسئولة أمام مجلس نيابي ينتخب أعضاؤه انتخابا حرا يمثل فيه السكان بحسب نسبهم الحقيقية
ثم شكلت لجنة تنفيذية أطلق عليها اللجنة التنفيذية العربية عهد إليها متابعة تنفيذ القرارات والإشراف على الحركة الوطنية واختير كاظم الحسيني رئيسا لها. ورغم خلو قرارات المؤتمر مما يشير رفض الانتداب البريطاني فإن حكومة الانتداب أهالتها قرارات المؤتمر لاسيما الدعوة لإقامة حكومة نيابية ، وعملت على إضعافها من خلال التشكيك في حجم تمثيل أعضائه لمختلف فئات الشعب ، وأعلنت رفضها الاعتراف بتمثيل المؤتمر لهذا الفئات ، غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل بعد أن كسب المؤتمر التأييد الشعبي العام
وطلبت السلطات في شهر أبريل 1921 من كاظم الحسيني أن يصدر بيانا يدعو فيه فئات الشعب الفلسطيني إلى الهدوء قبيل بدء الاحتفالات بالمواسم الدينية للمسلمين والمسيحيين [ خاصة عيد النبي موسى عند المسلمين ] . وكانت الأعياد قد بدأت تأخذ طابعا قوميا. بيد أن رئيس اللجنة التنفيذية العربية أصدر بيانا ناشد فيه " .. كل وطني مخلص أن يخلد للهدوء والسكينة جاعلا اعتماده على حكومة بريطانيا العظمى ".
• حوادث العنف الثانية مايو 1921
لم توقف التدابير العنف بين العرب واليهود. وتجددت الاضطرابات في مايو 1921 ووقعت هذه المرة في يافا وامتازت بكثرة القتلى والجرحى من الجانبين ، وامتدت 15يوما ، قام خلالها العرب بهجوم على مركز الهجرة الصهيوني وبعض المستعمرات بين يافا وطولكرم ويرجع السبب في هذا الصدام إلى اليهود الذين أثاروا حفيظة العرب أثناء تنظيمهم مظاهرات قادتها الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الصهيونية بمناسبة احتفالات عيد العمال في أول مايو .
اتبعت السلطات أساليبها السابقة في إعلان الأحكام العرفية بقصد السيطرة على الموقف الأمني ولم تسر الأحكام العرفية على اليهود الذين خالفوا قوانينها واقتحموا بيوت العرب في حي المنشية بيافا بحجة التفتيش عن أمتعتهم المسلوبة واعتدوا على الأهالي الآمنين في تلك البيوت . وأثناء الأحداث واجهت السلطات البريطانية الموقف بمنتهى القوة والعنف مما أدى إلى استشهاد 48 عربيا فضلا عن إصابة 73 آخرين مقابل 146 جريحا من اليهود. واحتاطت الحكومة المدنية لمواجهة مثل هذه الصدامات بين العرب واليهود ففرضت ضريبة قدرها 83 قرشا على زائري النبي موسى في مدينة الخليل للحد من الاحتفالات الشعبية في المواسم المقبلة(1). وحاول المندوب السامي الاستفادة من أحداث مايو 1921، فأصدر في نهاية الشهر قرارا بتعيين الحاج أمين الحسيني مفتيا للقدس خلفا لأخيه كامل الحسيني ، وهدف من وراء ذلك تحقيق ثلاثة أهداف
•ترضية الحركة الوطنية
•استبقاء التنافس بين أسرتي الحسيني والنشاشيبي
•تقييد الحاج أمين الحسيني بقيود ذلك المنصب الذي كانت خزينة الدولة تدفع نصف راتبه من رسوم المحاكم الشرعية
وأخيرا ، حظرت الحكومة على الجرائد الوطنية أن تكتب شيئا تنتقد فيه السياسة البريطانية ، كذلك منعت دخول الجرائد الأوربية والعربية التي تكتب شيئا ضد الوجود البريطاني والصهيوني في فلسطين .
تألفت لجنة للتحقيق برئاسة سير توماس هيكرافت قاضي القضاة في فلسطين. وقدمت تقريرا كشف خطة الصهيونية وتآمرها مع الحكومة البريطانية لإنشاء الوطن القومي. وحدد التقرير بدقة الأسباب التي تدعو إلى تذمر العرب وأهمها إصرار بريطانيا على المضي قدما في بناء الوطن القومي اليهودي وتنامي الشعور المعادي لليهود
• المؤتمر الفلسطيني الرابع
دفعت أحداث مايو 1921 المندوب السامي إلى إعادة النظر في سياسته الفلسطينية. وآثر أن يتبع سياسة التساهل مع العرب وتقديم تنازلات لهم مادام ذلك لا يمس نظام الانتداب. وبدأ تلك السياسة بإيقاف الهجرة اليهودية بصورة مؤقتة . ثم بواسطة تشجيع الفئات التقليدية ممن يتولون مناصب إدارية في الدولة ويساهمون بشكل أو بآخر في الحركة الوطنية فأغدق عليهم المناصب والألقاب، وأنعم على عدد منهم بوسام عضو في الإمبراطورية البريطانية M.B.E ولم يكن أمام الذين أنعم عليهم سوى قبول التكريم لأن رفضه يعنى عداءهم للسلطة وهو أمر كانوا جد حريصين على تفاديه .
من منطلق هذه السياسة الجديدة دأبت السلطات عن التغاضي عن انعقاد المؤتمرات الفلسطينية . ورغم الظروف الحرجة التي انعقد فيها المؤتمر الرابع بالقدس بين 29 مايو ـ 2 يونيو 1921 فإن المندوب السامي فضًل ألا يمنع انعقاده بالقوة حتى لا تضطرب الأوضاع الأمنية . كما خشي من ناحية أخرى أن يفسر أي تدخل بالقوة بأنه تحيز لليهود ، مما سيكون له أبعد الأثر في تدعيم التيار المعارض لسياسة بناء الوطن القومي في الدوائر السياسية البريطانية [ كانت حكومة لندن ـ حتى ذلك الحين ـ لم تحصل على موافقة البرلمان على تضمين صك الانتداب تصريح بالفور ]. كما يعزو هذا الموقف من جانب المندوب السامي هربرت صموئيل المعروف بعدم اعتداده بحقوق العرب إلى شعوره الشخصي بالتفاوت الضخم بين طموحات الحركة الصهيونية وما وصلت إليه إنجازاتها الضخمة على أرض الواقع ، حيث أثبتت أحداث أبريل 1920 ومايو 1921 ضعف الوجود الصهيوني وعجزه عن تحقيق تقدم دون أن يمس بذلك مركز بريطانيا في فلسطين والمنطقة العربية
لكن هربرت صموئيل سعى من جانب آخر إلى توجيه ضربة إلى المؤتمر الرابع ، حيث أراد تعطيل الوفد الذي قرر المؤتمر الفلسطيني تشكيله لعرض مطالب العرب على البرلمان الإنجليزي . غير أنه لم يتجه إلى منع سفر الوفد بالقوة لنفس الاعتبارات السابقة ، لكنه اجتمع بأعضائه في 23 يونيو 1921 وذكر لهم أن الوفد لن يقبل رسميا لأنه لا يملك صفة رسمية باعتبار أنه وفد غير حكومي ، بل أن بقائه في فلسطين سيمكنه من الاشتراك في سن دستور البلاد الذي سوف يقدم إلى لندن ، وأن حكومة فلسطين عازمة على أعداد أساس انتخابي للمجلس الاستشاري . ثم اتجه المندوب السامي في محاولة للتأثير علي موقف الوفد الذي كان قد سافر إلى لندن نهاية يونيو ، فأعلن في 11 أغسطس 1921 تشكيل مجلس استشاري جديد يقوم على أساس نظام الانتخاب عوضا عن الحكم الذاتي ، واتخاذ التدابير اللازمة لإعداد مشروع دستور فلسطين لكي يعرض على الحكومة البريطانية لإجازته ودعوته عدد من كبار رجال الطائفتين الإسلامية والمسيحية ليستشيرهم في المبادئ التي تندرج في الدستور وفي التدابير الأخرى المهمة التي تفكر الحكومة في القيام بها . ولم تكن محاولات المندوب السامي التلويح بأمر الدستور سوى مناورة صهيونية قام بها النائب اليهودي العام بقصد إضعاف مركز الوفد حتى لا يؤثر على موقف البرلمان الإنجليزي عند نظر موضوع تضمين تصريح بالفور صك الانتداب وأيضا لامتصاص غضب العرب نتيجة حرمانهم من حقوقهم الدستورية والسياسية . ومع ذلك لم تنطل المحاولات على أعضاء الوفد الذي مضوا في مهمتهم
خلال شهري فبراير ومارس 1922 ازداد التوتر السياسي مما أدى إلى إصدار سلسلة من التعليمات تمنع الأهالي من القيام بأية مظاهرات ، منها الإعلان الذي أصدره " ستورز " حاكم القدس بمنع المظاهرات إلا بعد الحصول على أذن خطي من الحاكم ، كما أصدر تحذيرات أخرى بالنسبة لمن يضبط وبيده أسلحة أيا كان نوعها.
• تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى
أعلن المندوب السامي تعيين الحاج أمين الحسيني أوائل يناير 1922 رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى ، الذي اتخذ قرار بتشكيله في نهاية العام السابق في محاولة أخرى لتهدئة الحالة المضطربة في البلاد ولا ينبغي أن يفهم من قرار تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى أنه كان لصالح المسلمين أو لصالح عرب فلسطين عامة . إذ استند القرار على دوافع سياسية قصد منها التأثير على قدرة عرب فلسطين على متابعة نضالهم الوطني وتعميق الفرقة بين صفوفهم وضرب الوحدة الوطنية التي كانت تمثل الدليل القوي على انتماء هؤلاء العرب إلى شعب واحد
وقد جاء تشكيل المجلس الإسلامي الأعلى لمساواة المسلمين بكل من اليهود والمسيحيين من حيث الاستقلال في إدارة شئونهم الدينية . وبذلك أكدت بريطانيا سياستها الرامية إلى بلورة الشعب الفلسطيني في ثلاث طوائف دينية ومنح كل واحدة منهن استقلالا ذاتيا . وقد أوحى تشكيل هذا المجلس بما استهدفته السياسة البريطانية فأظهر شعب فلسطين في صورة طوائف دينية لا يرتبط أفرادها فيما بينهم بروابط قوية وأن ما يجمعهم معا مجرد التواجد على أرض فلسطين لأسباب دينية أو اقتصادية أو اجتماعية .
وما من شك أن تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى وقبول المسلمين به جعلهم يبدون ـ وهم الغالبية العظمى في البلاد ـ في منزلة " طائفة دينية " التي كانت طابع الأقليات . كما يعني ذلك القبول ـ رضاهم الضمني بالشق الثاني من تصريح بالفور الذي يؤكد " أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين " حيث جاء ذلك القبول متمشيا مع مضمون ذلك الشق . وأدي رئاسة الأسرة الحسينية لأكبر مركزين دينيين في البلاد [ المجلس الإسلامي الأعلى ، مفتي القدس ] إلى انشقاق خطير في الحركة الوطنية الفلسطينية . إذ أخذت الأسر الأخرى خاصة أسرة النشاشيبي تعمل على هدم نفوذ الأسرة الحسينية ، وأسهل الطرق انصياع أكثر إلى سلطات الانتداب وإعلان الولاء التام لها.
• الكتاب الأبيض لسنة 1922
في 3 يونيو 1922 أصدر ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني بيانا رسميا عرف باسم " الكتاب الأبيض لسنة 1922 " ، حاول فيه أن يبث الطمأنينة في نفوس العرب ويقضى على مخاوفهم . فأنكر أن بريطانيا تهدف من تصريح بالفور جعل فلسطين يهودية برمتها أو أنها ستصبح يهودية كما أن إنجلترا إنجليزية. وقال نصا " أن إنجلترا تعدً هذه الآمال غير قادرة للتحقيق .. وتعلن أنها لا ترمي إلى هذه الغاية أو أنها تفكر قط في إخضاع أو محو السكان العرب أو القضاء على لغتهم وآدابهم في فلسطين "
وأهم ما جاء في كتاب تشرشل ما يتعلق بوجهة النظر البريطانية في بناء الوطن القومي اليهودي ، وينطوي على عدة نقاط جوهرية :
• تصريح بالفور غير قابل للتغيير [ كانت هذه العبارة صدمة للعرب وإمعانا من بريطانيا في إنشاء الوطن القومي اليهودي ]
• وجود الشعب اليهودي في فلسطين حق وليس منة ، حق مصدره الصلات التاريخية . وأن تصريح بالفور ما هو إلا اعترافا بهذا الحق وضمانا لإقراره بإنشاء الوطن القومي .
• جميع أجزاء فلسطين الواقعة غربي نهر الأردن لا تدخل في نطاق الدولة العربية التي وعدت بريطانيا باستقلالها في محادثات حسين مكماهون .
• تمكين اليهود من زيادة عددهم في فلسطين بالهجرة بالقدر الذي يتناسب وإمكاناتها الاقتصادية ويضمن حياة راقية لكل سكانها.
لا ريب أن الجزء الذي يخص العرب في كتاب تشرشل لا ينم عن حقيقة نواياه وأمثاله من المسئولين البريطانيين وينطوي على تغرير بالعرب حتى يطمئنوا إلى سياسة بريطانيا في فلسطين . وما جاء بشأن اليهود يدل تمسك بتهويد فلسطين . والكتاب برمته ينطوي على تناقض وتضارب شديدين . وما كان بإمكان تشرشل أو غيره أن يزيل هذا التناقض طالما هناك تمسك بسياسة إقامة الوطن القومي . فالحقوق متعارضة يقينا بين العرب واليهود . والتظاهر بمحاولة إرضاء العرب مع الاستمرار في الاعتراف بحق اليهود في إقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين أمر لم ينطل على عرب فلسطين الذين ظلوا يناضلون بإمكانياتهم المحدودة من أجل استقلال بلادهم .
وقد اعترض عرب فلسطين على الكتاب الأبيض ، وقدم وفدهم الذي كان يزور لندن العاصمة البريطانية احتجاجا كتابيا ، أشاروا فيه إلى أن السياسة التي تنتهجها الحكومة البريطانية سوف تؤدي عاجلا أم آجلا إلى فناء عرب فلسطين ، وأن بريطانيا لن تقبل على إقامة حكم ذاتي في فلسطين إلا بعد أن تتوفر لليهود أغلبية عددية تمكنهم من السيطرة على الحكم وطالب الوفد بتشكيل حكومة وطنية مسئولة أمام برلمان فلسطيني منتخب من سكان البلاد مسلمين ومسيحيين ويهود .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق